فالمعنى الظاهر للناس فيه أنه أراد: لا ضياء له ولا نور ولا إشراق، من حيث كان حلوله محزنا مؤذنا بتقضّي الأجل؛ وهذا لعمرى معنى ظاهر؛ إلا أنه يمكن فيه معنى آخر؛ وهو أنّه يريد إنك بياض لا لون بعده، لأن البياض
آخر ألوان الشعر، فجعل قوله:
«لا بياض له» بمنزلة قوله: لا لون بعده، وإنما سوّغ ذلك له أنّ البياض هو الآتى بعد السّواد، فلما نفى أن يكون للشيب بياض كان نفيا لأن يكون بعده لون.
وقد اختلف القراء فى فتح الميم وكسرها من قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى، فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو بفتح الميمين معا، وقرأ عاصم فى رواية أبى بكر وحمزة والكسائىّ بكسر الميم فيهما معا (?)، وفى رواية حفص عن عاصم:
لا يكسر هما، وكسر أبو عمرو الأولى وفتح الأخيرة: ولكل وجه، أما من ترك إمالة الجميع؛ فإن قوله حسن، لأن كثيرا من العرب لا يميلون هذه الفتحة، وأما من أمال الجميع فوجه قوله أن ينحو بالألف نحو الياء، ليعلم أنها تنقلب إلى الياء (?)، وأما قراءة أبى عمرو بإمالة الأولى وفتح الثانية فوجه قوله أنّه جعل الثانية أفعل من كذا مثل أفضل من فلان، وإذا جعلها كذلك لم تقع الألف فى آخر الكلمة؛ لأنّ آخرها إنما هو من كذا، وإنما تحسن الإمالة فى الأواخر، وقد حذف من «أفعل» الّذي هو للتفضيل الجارّ والمجرور جميعا، وهما مرادان فى المعنى مع الحذف، وذلك نحو قوله تعالى: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى؛ [طه: 7]؛ المعنى وأخفى من السر، فكذلك قوله تعالى: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى، أى أعمى منه فى الدنيا، أو أعمى من غيره، ويقوى هذه الطريقة ما عطف عليه من قوله تعالى: وَأَضَلُّ سَبِيلًا، فكما أن هذا لا يكون إلا على «أفعل من كذا» كذلك المعطوف عليه.