لأنه خبّر أنه خشى الناس، والله أحقّ بالخشية، ولم يخبر أنه لم يفعل الأحقّ وعدل إلى الأدون؛ فمن أين حصول العتاب مع الّذي بيّنّاه!
على أن غاية الاقتراح فى هذا أنّه عليه السلام فعل ما غيره أولى منه؛ وليس يكون بترك الأولى عاصيا؛ وإنما يكون تاركا للأفضل. والوجه فى تركه العذر الّذي بينا.
وأما قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فالعتاب فى الحقيقة متوجّه إلى سواه؛ لأنّ الله تعالى قد صرّح بذلك فى تمام الآية بقوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وقوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68]. والقصة فى هذه الآية أيضا مشهورة؛ وإنما أضاف الأسرى إلى نبيه عليه السلام بقوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى، وإن كان المراد بالخطاب من أسر؛ لأنهم أسروهم، ليكونوا فى يده عليه السلام؛ فهم فى الحقيقة أسراؤه ومضافون إليه؛ وإن لم يأمره بأسرهم.
فأما قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ إذا تؤمّل فى الحقيقة لم يكن فيه عتاب؛ وإنما هو توجّع له عليه السلام؛ يدلّ على ذلك أن تحريم الرجل زوجته أو طلاقه إياها، أو اعتزاله بعض إمائه ليس بقبيح؛ بل هو مباح، وما هو بهذه الصفة لا يستحق الفاعل له عتابا؛ فلما فعل النبىّ عليه السلام ذلك لمرضاة بعض أزواجه، وأدخل المشقة على نفسه بفعله قال الله تعالى له: لم فعلت ذاك؟ وألّا أمسكتها على ما كنت عليه؟ ولم تبتغى مرضاة أزواجك بإدخال المشقة على نفسك؟
هذا هو الظاهر؛ وإذا نزل على اقتراح الخصم فى هذه الآية كان النبىّ عليه السلام قد عدل عن الأولى؛ فكان الإمساك وترك التحريم أفضل، وله أن يحرّم.
ويجرى قوله تعالى له ما قال مجرى قول الواحد منّا لغيره: لم تركت صلاة الليل؟ ولم