وكان سيف الدولة على بانقوسا، ووردت عسكر الورم إلى الهزّازة، فالتقوا فانهزم الحلبيون، وقتل واسر منهم جماعة كثيرة. وقتل أبو طالب بن داود ابن حمدان، وأبو محمد الفياضي كاتب سيف الدولة، وبشرى الصغير غلام سيف الدولة، وكان أسند الحرب اليوم إليه وجعله تحت لوائه.
ومات في باب المدينة المعروف بباب اليهود ناس كثير لفرط الزحمة. وكان سيف الدولة راكباً على فرس له تعرف بالفجي فانهزم مشرقاً حتى بعد عن حلب. ثم انحرف إلى قنسرين فبات بها.
وأقام الروم على ظاهر البلدة أربعة أيام فخرج شيوخ حلب إلى نقفور يسألونه أن يهب لهم البلد، فقال لهم: تسلّمون إليّ ابن حمدان. فحلفوا أن ابن حمدان ما هو في البلد. فلما علم أن سيف الدولة غائب عنها طمع فيها وحاصرها.
وقيل: إن نقفور خرج إليه شيوخ حلب باستدعاء منه لهم يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة من السنة. وكان نزوله على المدينة يوم السبت العشرين من ذي القعدة. وجرى بينه وبينهم خطاب آخره على أن يؤمنهم، ويحملوا إليه مالاً ويمكنوا عسكره ان يدخل من بابا ويخرج من آخر، وينصرف عنهم عن مقدرة، فقالوا له: تمهلنا الليلة حتى نتشاور ونخرج غداً بالجواب. ففعل. ومضوا. وتحدثوا. وخرجوا بكرة الثلاثاء إليه، فأجابوه إلى ما طلب. فقال لهم نقفور: أظنكم قد رتبتم مقاتلتكم في أماكن مختفين بالسلاح، حتى إذا دخل من أصحابي من يمكنكم أن تطبقوا عليه. وتقتلوه فعلتم ذلك. فحلف بعضهم من أهل الرأي الضعيف أنه ما بقي بالمدينة من يحمل سلاحاً، وفيه بطش، فكشفهم نقفور عند ذلك، فعند ذلك قال لهم: انصرفوا اليوم واخرجوا إليّ غداً. فانصرفوا.
وقال نقفور لأصحابه: قد علمتم أنه ما بقي عندهم من يدفع، فطوفوا الليلة بالأسوار ومعكم الآلة، فأي موضع رأيتموه ممكناً فتسوروا إليه، فإنكم تملكون الموضع.
فطافوا وكتموا أمرهم، وأبصروا، أقصر سور فيها ما يلي الميدان بباب قنسرين، فركبوه، وتجمعوا عليه، وكان وقت السحر وصاحوا ودخلوا المدينة.
وقيل: إن أهل حلب قاتلوا وراء السور فقتل جماعة من الروم بالحجارة والمقاليع، وسقطت ثلمة من السور على قوم من أهل حلب فقتلهم. وطمع الروم فيها، فأكبوا عليها، ودفعهم الحلبيون عنها، فلما جنهم الليل اجتمع عليها المسلمون فبنوها فأصبحوا وقد فرغت، فعلوا عليها وكبّروا، فبعد الروم عن المدينة إلى جبل جوشن.
فمضى رجالة الشرطة وعوام الناس إلى المنازل، وخانات التجار لينهبوها فاشتغل شيوخ البلد عن حيطان السور ولحقوا منازلهم، فرأى الروم السور خالياً فتجاسروا، ونصبوا السلالم على السور، وهدموا بعض الأبدان، ودخلوا المدينة من جهة برج الغنم، في شهر ذي القعدة سنة 51.
وأخذ الدمستق منها خلقاً من النساء والأطفال، وقتل معظم الرجال، ولم يسلم منه إلا من اعتصم بالقلعة من العلويين والهاشميين والكتاب وأرباب الأموال. ولم يكن على القلعة يومئذ سور عامر، فإنها كانت قد تهدمت، وبقي رسومها فجعل المسلمون الأكف والبراذع بين أيديهم.
وكان بها جماعة من الديلم الذين ينسب إليهم درب الديلم بحلب، فزحف إليها ابن أخت الملك، فرماه ديلمي فقتله فطلبه من الناس فرموه برأسه، فقتل عند ذلك من الأسرة اثني عشر ألف أسير. وقيل أكثر من ذلك وقيل أقل، والله أعلم.
وأقام نقفور بحلب ثمانية أيام ينهب، ويقتل، ويسبي باطناً وظاهراً. وقيل: أخرب القصر الذي أنشأه سيف الدولة بالحلبة، وتناهى في حسنه، وعمل له أسواراً، وأجرى نهر قويق فيه من تحت الخناقية، يمر من الموضع المعروف بالسقايات حتى يدخل في القصر من جانب، ويخرج من آخر، فيصب في المكان المعروف بالفيض، وبنى حوله إصطبلاً ومسكناً لحاشيته.
وقيل: إن ملك الروم وجد فيه لسيف الدولة ثلاثمائة وتسعين بدرة دراهم، ووجد له ألفاً وأربعمائة بغل فأخذها، ووجد له من خزائن السلاح ما لا يحصى كثيرة فقبض جميعها، وأحرق الدار فلم تعمر بعد ذلك، وآثارها إلى اليوم ظاهرة.
ويقال: إن سيف الدولة رأى في المنام أن حية قد تطوقت على داره، فعظم عليه ذلك، فقال له بعض المفسرين: الحيّة في المنام ماء. فأمر بحفر يحفر بين داره وبين قويق حتى أدار الماء حول الدار.