حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}.
والسنة فيها الكثير من الشواهد على الإحسان والعدل مع غير المسلّمين، والتحذير من عاقبة الظلم خاصة ظلم أهل الذمة، وتوعد من ظلمهم يوم القيامة، ولهذا شهد عصر النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وعصر الخلفاء الراشدين ومن بعدهم صوراً كثيرة من السماحة والعدل في معاملة غير المسلّمين, منها قوله صلّى الله عليه وسلّم: (ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلَفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة). والخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لمّا طُلب منه أن يوصي الخليفة من بعده، أوصاه بعدة وصايا، ومما جاء فيها: وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أن يوفّي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلّفوا إلا طاقتهم. وكان يقول: أوصيكم بذمة الله، فإنه ذمة نبيكم، ورزق عيالكم. ومر هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حُبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخلُّوا. وعندما أمر عمر بن عبد العزيز مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، وقام إليه رجل ذمي من أهل حمص، فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال: وما ذلك؟ قال: العباس بن الوليد اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال عمر: يا عباس ما تقول؟ قال: نعم، أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد، وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى، فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، قم يا عباس فاردد عليه ضيعته، فردها عليه.
وكان العلماء والقضاة يسيرون على هذا النهج من النصح للخلفاء بأن يرفقوا بأهل الذمة، قال القاضي أبويوسف وهو يوصي أمير المؤمنين هارون الرشيد بأهل الذمة
(وينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله- أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك، وابن عمك محمد صلّى الله عليه وسلّم، والتفقد لهم حتى لا يظلموا، ولا يؤذوا، ولا يكلّفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيء من أموالهم، إلا بحق يجب عليهم-ثم ذكر جملة من الأحاديث والآثار الّتي فيها الوصية بأهل الذمة، والتحذير من الإساءة إليهم .. ).
ومن ذلك قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر وابنه، فقد اقتص الخليفة عمر للقبطي في مظلمته، وقال مقولته المشهورة:" يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ".وكذلك تجلى العدل مع غير المسلمين حتى في خصومهم مع الخلفاء ومن ذلك "خصومة الخليفة علي رضي الله عنه مع يهودي في درعه التي فقدها، ثم وجدها عند يهودي، فاحتكما إلى شريح القاضي فحكم بها لليهودي، فأسلم اليهودي وقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه، فيقضي لي عليه، أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من
بعيرك الأورق، فقال علي كرم الله وجهه، أما إذا أسلمت فهي لك".