إخراجهم من دينهم طردتهم عن ديارهم، وغسلت الديار عن آثارهم كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقاً، ولا يمنع غير المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد أو شدة العضد، كما شهد التاريخ، وكما يشهد كاتبوه، ثم قال: فأنت ترى الإِسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها، بشيء من المال أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم، وبأن يعيشوا في هدوء لا يعكرون معه صفو الدولة ولا يخلون بنظام السلطة العامة، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم، لا رقيب عليهم فيها سوى ضمائرهم. اهـ.
ويقول القطان في تفسيره: والجزيةُ ضريبة مالية من أموال غير المسلمين المستظِلّين براية الاسلام، وهي مقدار يتراوح بين اثني عشر درهما، وثمانيةٍ وأربعين وذلك ليُسهموا في ميزانية الدولة التي تحميهم في أنفسِهم وأموالهم وأعراضهم فهي في مقابل ما يؤخذ من المسلم، فالمسلم يُؤخَذ منه خُمس الغنائم والزكاة، وصدّقة الفطر، وغير ذلك مثل الكفّارات للذنوب المختلفة، وتنفق الجزية في المصالح العامة، وعلى فقراء أهل الذمة أيضا، وتفرض الجزية على أهل الكتاب، ولا تُفرض على المشركين هكذا عند جمهور العلماء، ويقرر أبو حنيفة أنها تفرض على غير المسلمين جميعا، أما المشركون الذين لا تقبل منهم فهم مشركو العرب فقط، وفيما يلي عهد كتبه أحد أمراء عمر بن الخطاب إلى مَرزُبان وأهل دهستان: هذا كتاب سويد بن مقرن لمرزبان بن صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان أن لكم الذمة وعليكم المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا عن جزائه، ولكن الأمان على أنفسكم وأموالكم ومللكم وشرائعكم ولا يغير شيء من ذلك. اهـ.
وأما حكم الجزية ومن تُقبل منه فاعلم أن الكفار ينقسمون بالنسبة إلى الجزية إلى ثلاثة أقسام:
1 - أهل كتاب وهم: اليهود والنصارى، فهؤلاء يقاتلون حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويقرون على دينهم إذا بذلوها.
2 - قسم لهم شبهة كتاب وهم: المجوس، فحكمهم حكم أهل الكتاب في قبول الجزية منهم وإقرارهم بها، لقوله صلى الله عليه وسلم في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه مالك وابن أبي شيبة. ولا يعلم خلاف في هذين القسمين بين أهل العلم، إلا ما حكي عن الحسن البصري من أن الجزية لا تؤخذ من أهل الكتاب العرب.
3 - وقسم ثالث وهم: من لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب، وهم عبدة الأوثان وسائر الكفار، فلا يقبل منهم سوى الإسلام. وهذا هو مذهب الشافعية، وظاهر مذهب الحنابلة.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب، وروي ذلك عن مالك وأحمد.
وذهب مالك في الراجح عنه إلى أن الجزية تقبل من جميع الكفار، ومنهم المشركون وعبدة الأوثان مطلقاً: عرباً ـ ولو كانوا من قريش ـ فأحرى إذا كانوا غير عرب. وإلى هذا ذهب الأوزاعي.
واستدل القائلون بأن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس فقط، بعموم الأدلة الدالة على قتال المشركين كقوله سبحانه في سورة التوبة: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا