وجل أمر بمصاحبتهم في الدنيا معروفاً بل أذن بالزواج من الكتابية , وبقاء المسلم مع من يجب بغضه , فيه حرج كما هو معلوم , وهو القائل (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) , وإذا تقرر جواز مودة الزوجة الكتابية بناءً على إذن الشارع بالزواج منها والتي أشار الله إليها -جل وعلا- في كتابه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإذا تقرر هذا فإن عدم مؤاخذة المسلم في محبة والديه الغير مسلمين من باب أولى لأن المتزوج من الكتابية قد تزوج من تلقاء نفسه ولم يُكرهه أحد على ذلك , أما من ابتُلي بوالدين كافرين أو إخوة كفار فهو مُكره على ذلك ولم يختر والديه وأقاربه وهو أولى بالإعذار من المتزوج للكتابية ويدلك على هذا التقرير هذا الحديث , عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال " استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي) ومن المعلوم أن البكاء والشفقة لا يكونان إلا من ميل قلبي جبلي لا يُؤاخذ عليه الإنسان.

الدليل الرابع: قوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وهو استدلال ضمني بأنَّ الله نهى عن الإحسان إلى المحاربين وأَذِنَ بالصلة والإحسان لمن لم يحارب من الكفار فقال {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ .... الآية}، وقوله هنا {أَن تَوَلَّوْهُمْ} في وصف المحاربين يدل على أنَّ غير المحاربين له نوع موالاة جائزة بالإحسان والمودة الجزئية ونحو ذلك، وهذا واضح بالمقابلة ثم إن عموم البر والإحسان فيه قدر من المودة لا ينفك عنه , ويدلك على هذا حديث رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صّلى الله عليه وسلّم، فاستفتيت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، قلت: إنّ أمي قَدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال "نعم، صلي أمك". والصلة المراد بها في هذا الحديث أنها تكرمها إكرام الولد لوالده إذا قدم عليه، وهذا الإكرام لا يخلو؛ بل لابد فيه من مودة وارتياح وانبساط ومؤانسة ولا يُقال هنا أن صلة الأرحام لا تستلزم المودة وذلك أننا قد نسلم بأن المعاملة الظاهرة للكفار بالبيع والشراء لا تستلزم المودة أما الصلة فهي قدر زائد على المعاملة الظاهرة.

الدليل الخامس: حكمة الشارع وأن الشرع يُصدق بعضه بعضاً ولا يتناقض وذلك أن الشارع لم يقطع أسباب المودة الطبيعية كلياً للكافر المسالم للدين وأهله بل شرع صلة الأرحام ولو كانوا كفاراً وقيل رخص فيها ولا يُمكن أن يُرخص في صلة الأرحام ثم يُحرَج الشارع من محبتهم المحبة الطبيعية الجبلية إذ من المعلوم أنََ إعطاء الوسيلة حكم التوسل إليه دليل على حكمة الباري وعلمه بخصائص النفس البشرية لأنه لو حرم الشيء وأباح الوسائل الموصلة إليه غالباً لوقع الناس في حرج عظيم فما بالك لو كان تعاطي هذه الوسائل واجب كوجوب بر الوالدين المشركين وصحبتهما في الدنيا معروفاً , قال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015