"المسألة الثالثة": كان الحفاظ من العلماء المتقدمين والأئمة المتقنين رضي الله عنهم يعقدون مجالس لإملاء الحديث فإنه أعلى مراتب الرواية والسماع وفيه أحسن وجوه التحمل وأقواها, وهذا الإملاء سنة حسنة اتبعها السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم. روى البيهقي في المدخل بسنده عن معروف الخياط قال: "إني رأيت واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يملي على الناس الأحاديث وهم يكتبونها بين يديه" وكانت مجالسهم عامة, فيها علم جم, وخير كثير, ولهذه المجالس آداب منها: أنه إذا أكثر الجمع بحيث لا يستطيع الشيخ إسماعهم فليتخذ مستمليا محصلا متيقظا فطنا يبلغ عنه الحاضرين كما روى عن الإمام مالك وشعبه ووكيع وغيرهم, ولهذا أصل في السنة. فقد روى أبو داود والنسائي من حديث رافع بن عمرو قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء, وعلي يعبر عنه" وفي صحيح البخاري: عن أبي جمرة1 قال: "كنت أترجم2 بين ابن عباس وبين الناس" فإن كثر الجمع بحيث لا يكفي مستمل واحد اتخذا اثنين أو أكثر, فقد أملى أبو مسلم الكجي3 في رحبة غسان، وكان في مجلسه سبعة مستملون يبلغ كل واحد منهم صاحبه الذي يليه, وحضر مجلسه نيف وأربعون ألف محبرة سوى النظارة"4.