ونحن نعلم أنّ العاشق بالغاً ما بلغَ لا يمتد نفسُه امتِداد أقصر أجزاءِ الليل، وأن السعة الواحدة من ساعاته لا تنقضي إلا عن أنفاسٍ لا تُحصى؛ كائنةً ما كانت في امتدادها وطوله، وإنما مرادُ الشاعر أن الليل زائدٌ في الطول على مقادير الليالي كزيادة نفَسِ العاشق على الأنفاس؛ فهذا وجهٌ لا أرى به بأساً في تصحيح المعنى، وإن كنتُ لا أرى أن يؤخَذ الشاعر بهذه الدقائق الفلسفية ما لم يأخذْ نفسَه بها، ويتكلّف التعملَ لها، فيؤخذ حينئذ بحكمه، ويُطالب بما جنى على نفسه.
وقوله:
كأنّه من عِلمِه بالمَقتَلِ ... علّم بُقْراط فِصادَ الأكْحَلِ
قالوا: لم يكن بقراط فصّاداً ولا كان الفصْد غالباً عليه في زمانه، وإنما كثُر بعده. قال المحتجّ: أما هذه الدعوى فلا يُعلَم كيف وجهها؟ وهل أنتم صادقون فيها؟ وقد كان الفصْد قديماً، ولكنهم كانوا يحتذبون العِرْق بآلة شبيهة بالقِنّارة ثم يبضَعونه، فهذا أحوجُ الى الحِذْقِ واللُطف، ولسنا نأبى أن يكون بُقراط لا يفصد، وليس مقصِد الشاعر إلا علمه بالفصْد، وقد عُلِم موقعُ المعرفة بالتشريح من هذا العلم، وكيف يفتقر الى الوقوف على تشعّب العروق، واتّصال ما اتصل منها، وانفصال ما انفصل، وليس بمثل بُقْراط - على عِلمِه ومعرفته بالطبّ، واجتماع الألسُن على تقديمه جهْل ذلك، وقد يعلمُ الشيء منْ لا يعالجه بيده، ولا يتولاّه بنفسه، وليس ترْكُه مباشرة ذلك بدالّ على جهلِه به. ولو كان بُقراط أجهلَ الناس بذلك لم يلْحق أبا الطيب من هذا القول نقيصةٌ على طريقته؛ لأنهم لا يؤخَذون بمعرفة الأطباء ومواقعهم من الصناعة، ومهارتهم في العلم والعمل، ولما رأى الأطباء