وأما سورة المنزلة بهذا الأسلوب الغريب، والنظم العجيب، فقد يكون فى الآية الواحدة الطويلة والسورة الواحدة القصيرة، عدة ألوان من الهداية وإن كانت فى موضوع واحد فترى فى سورتى الفيل وقريش على قصرهما ذكر مسألتين تاريخيتين قد جعلتا حجة على مشركى قريش فيما يجب عليهم من توحيد الله وعبادته، بما منّ عليهم بعنايته بحفظ البيت الحرام وأمنه وهو مناط عزّهم وفخرهم وشرفهم، ومعقل حياتهم. ومحبى تجارتهم ورزقهم.
قلت: إنّ القرآن لو أنزل بأساليب الكتب المألوفة المعهودة وترتيبها لفقد أعظم مزايا هدايته المقصودة بالقصد الأول. وأقول أيضا: إنه لو أنزل هكذا لفقد بهذا الترتيب أخص مرات إعجازه المقصود بالدرجة الثانية.
كلا إنّ كلّ واحدة من الميزتين مقصودة لذاتها. فأولى أن يعبر عن الميزة الأولى بالموضوع وعن الثانية بالشكل. كاصطلاح المحاكم. فيقال: لو كان القرآن مرتبا مبوبا كما ذكر لكان خاليا من أعظم مزاياه على غيره من الكتب شكلا وموضوعا.
يعلم هذا وذاك مما نبينه من فوائد نظمه وأسلوبه الذى أنزله به رب العالمين. العليم الحكيم الرحيم، وهو مزج تلك المقاصد كلّها بعضها ببعض وتفريقها فى السور الكثيرة الطويلة منها والقصيرة بالمناسبات المختلفة، وتكرارها بالعبارات البليغة. المؤثّرة فى القلوب المحركة للشعور النافية للسآمة والملل. من المواظبة على ترتيلها بنغمات نظمه الخاص به وفواصله المتعددة القابلة لأنواع من التغنى والنغم الذى يحرك فى القلوب وجدان الخشوع وخشية الإجلال للرب المعبود، والعرفان بقدسه وكماله، والملاحظة لجماله وجلاله والتعرض لتجلى أسمائه وصفاته، والتفكر فى آيات مصنوعاته، والرجاء فى رضوانه ورحمته، والخوف من غضبه وعقوبته، والاعتبار بسننه فى خلقه والقابلة لأنواع أخرى من الإلقاء الخطابى فى الترغيب والترتيب. والتعجيب، والتعجيب، والتكريه والتحبيب، والزجر والتأنيب، واستفهام الإنكار والتقرير، والتهكم والتوبيخ بما لا نظير له فى كلام البشر من خطابه ولا شعر، ولا رجز ولا سجع، فبهذا الأسلوب الرفيع فى النظم البديع وبلاغة التعبير الرفيع كان القرآن كما ورد فى معنى وصفه أنه لا تبلى جدته، ولا تخلقه كثرة الترديد (?)؛ وحكمة ذلك وغايته تعلم مما وقع بالفعل، وهاك بيانه بالإجمال: