أو سور من أبلغ سور القرآن، فى بيان أصول الإيمان، وتوحيد الديان، واجتثاث شجرة الشرك وعبادة الأوثان، وتشريع الأحبار والرهبان، واتخاذ الولد للرحمن، وإنذار رءوس الكفر والطغيان، ما سيلقون فى الدنيا من الخزى والنكال، وفى الآخرة من عذاب النار كسور المفصل ولا سيما (ق والقرآن المجيد)، والذاريات، والطور، والنجم والقمر، ثم الحاقة والنبأ، أو فى سورة أو أكثر من السور الوسطى التى تقرعهم بالحجج، وتأخذهم بالعبر، وتضرب لهم المثل، بسنن الله فى الرسل، كسور الأنبياء والحج والمؤمنون.
ولكنه ظل ثلاث سنين لم يتل فيها على الناس سورة ولم يدعهم إلى شىء ولا تحدث إلى أهل بيته ولا أصدقائه بمسألة من مسائل الإصلاح الدينى الذى توجهت إليه بزعمهم نفسه، ولا من ذم خرافات الشرك الذى ضاق به ذرعه. إذ لو تحدث بذلك لنقلوه عنه، وناهيك بألصق الناس به، خديجة وعلىّ وزيد بن حارثة فى بيته وأبى بكر الصديق الذى عاشره طول عمره- فهذا السكوت وحده فى فترة الوحى برهان قاطع على بطلان ما صوروا به استعداده للوحى الذاتى الذى زعموه، واستمداده لعلومه من التلقى الذى اختلقوه والاختبار الذى توهموه.
(الوجه الثامن): أن ما نقل من ترتيب نزول الوحى بعد هذه الفترة الطويلة جاء موافقا لما كان يتجدّد من الوقائع والحوادث الطارئة، دون ما زعموا من الأمور السابقة، فقد نزل ما بعد صدر سورة المدثر ردا على قول الوليد بن المغيرة المخزومى الذى قاله فى القرآن؛ فقد أراده أبو جهل أن يقول فيه قولا يبلغ قومه أنه منكر له، وأنه كاره له، بعد أن علم أنه تحرى استماعه من محمّد صلّى الله عليه وسلم وأعجب به، قال له الوليد: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر، لا برجزه ولا بقصيدة منى، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله «1»، وإنه ليعلو وما يعلى، وأنه ليحطم ما تحته. قال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، فقال: دعنى حتى أفكر، فلما فكّر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره من غيره، فنزلت الآيات: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)
وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً
[المدثر: 11، 12 إلى 30]. رواه الحاكم عن ابن عباس بإسناد صحيح على شرط البخارى.
وقد نزلت سورة اقرأ فسورة ن والقلم، فسورة المزمل قبل سورة المدثر، ونزل بعدها أكثر من ثلاثين سورة من قصار المفصل وأوساطه ليس فيها شىء مما زعموا أنه تلقاه أو شاهده