قال: «إذا أردنا أن ندعو أحرار أوروبا إلى ديننا فيجب علينا أن نقنعهم أولا أننا لسنا مسلمين، فإنهم ينظرون إلينا من خلال القرآن هكذا- ورفع كفيه وفرج بين أصابعهما- فيرون وراءه أقواما فشا فيهم الجهل والتخايل والتواكل ... فيقولون لو كان هذا الكتاب حقّا مصلحا لما كان أتباعه كما نرى».
لا ننكر أن بعض أحرار الإفرنج قد عرفوا من تاريخ الإسلام ما لم يعرفه أكثر المسلمين، فانصفوا فيما كتبوا عنه من تواريخ خاصة، ومن مباحث عامة فى العلم والحضارة والدين، وأن منهم من اهتدى به عن بصيرة وبينة؛ ولكن ما كتبه هؤلاء كلهم لم يكن مبينا لحقيقته كلها، ولم يطلع عليه إلا القليل من شعوبهم، وكان جل تأثيره فى أنفس من اطلعوا عليه أن بعض الناس أخطئوا فى بيان تاريخ المسلمين فانتقد عليهم آخرون، فهو لم يهتك الحجب الثلاثة المضروبة بينهم وبين حقيقة الإسلام.
وأما عدم فهمهم للقرآن كما يجب- وأعنى به الفهم الذى تعرف به حقيقة إعجازه وتشريعه وأدبه وإصلاحه، وكونه هو دين الله الأخير الكامل الذى لا يحتاج البشر معه إلى كتاب آخر ولا إلى نبى آخر- فلعله أربعة أسباب خاصة، وراء تلك الحجب العامة وهى:
جهل بلاغة اللغة العربية التى بلغ القرآن فيها ذروة الإعجاز فى أسلوبه ونظمه وتأثيره فى أنفس المؤمنين والكافرين به جميعا، فأحدث بذلك ما أحدث من الثورة الفكرية والاجتماعية فى العرب، والانقلاب العام فى البشر- كما شرحناه فى هذا الكتاب- وقد كان من إكبار الناس لهذه البلاغة أن جعلها أكثر علماء المسلمين موضوع تحدّى البشر بالقرآن دون غيرها من وجوه إعجازه، وجعلوا عجز العربى الخالص عن معارضته بها، ثم عجز المولدين الذين جمعوا بين ملكة العربية العملية وملكة فلسفتها من فنون النحو والبيان، هو الحجة الكبرى على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وقد فقد العرب الملكتين منذ قرون كثيرة إلا أفرادا متفرقين منهم، فما القول فى غيرهم؟ فعلماء المسلمين فى هذه القرون يحتجّون بعجز أولئك ولا يدّعون أنهم يدركون سرّ هذا الإعجاز أو يذوقون طعمه؛ بل قال بعض علماء النظر المتقدمين منهم: إن الإعجاز واقع غير معقول السبب، فما هو إلا أن الله تعالى صرف النّاس عن معارضته بقدرته. والصواب أن منهم من حاول المعارضة فعجزوا، إذ ظنوا أن إعجازه بفواصل الآيات التى تشبه السجع فقلدوها فافتضحوا، ومن متأخرى هؤلاء