مثلا، هى إفادة أن الغلب يكون فى الحرب الممتدة فى هذه المدة، وأنباء الوحى والعبر لا تكون بأسلوب التاريخ يحدد الوقائع بالسنين، وليس فى وعود القرآن الكثيرة للمسلمين بالنصر وغيره من أنباء الغيب ذكر السنين ولا الشهور، فهذه الآية فريدة فى بابها.
ومثال آخر: ما زعموا من مروره صلّى الله عليه وسلم فى رحلته إلى الشام بأرض مدين وحديثه مع أهلها، الذى أرادوا به أن يجعلوه أصلا لما جاء فى القرآن من أخبارها والخبر باطل كما أشرنا إليه عند نقلنا إياه فى المقدمات، ولو صحّ لما كان من المعقول أن يعتمد محمد على ما سمعه فى الطريق من أناس مجهولين لا يوثق بمعرفتهم ولا يصدقهم فيجعله أصلا للوحى الذى جاءه فى قصة موسى وقصة شعيب عليهما السلام.
(الوجه الثانى): لو كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم تلقى عن علماء النصارى فى الشام شيئا أو عاشرهم لنقل ذلك أتباعه الذين لم يتركوا شيئا علم عنه أو قيل فيه- ولو لم يثبت- إلا ودونوه ووكلوا أمر صحته أو عدمها إلى إسناده وما علم من سيرة رواته.
(الوجه الثالث): لو وقع ما ذكر لاتخذه أعداؤه من كبار المشركين شبهة يحتجون بها على أنّ ما يدعيه من الوحى قد تعلّمه فى الشام من النصارى، فإنهم كانوا يوردون عليه ما هو أضعف وأسخف من هذه الشبهة، وهو أنه كان فى مكة قين (حداد) روميّ يصنع السيوف وغيرها، فكان النبى صلّى الله عليه وسلم يقف عنده أحيانا يشاهد صنعته فاتهموه بأنه يتعلم منه، فرد الله عليهم بقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103].
(الوجه الرابع): نصوص القرآن صريحة فى أنه صلّى الله عليه وسلم لم يكن يعرف شيئا من أخبار الرسل وقصصهم قبل الوحى، وهم متفقون معنا على أنه صلّى الله عليه وسلم لم يكن يكذب على أحد فضلا عن الكذب على الله عزّ وجلّ، كما اعترف بذلك أعدى أعدائه أبو جهل، كما أنهم متفقون معنا على قوة إيمانه بالله عزّ وجلّ ويقينه بكل ما أوحاه إليه.
ومن الشواهد على ذلك: قوله تعالى عقب قصة موسى فى مدين وما بعدها من سورة القصص: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الآيتان: 44، 45]، وقوله بعد قصة نوح من سورة هود: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ