(الوجه الأول): إن أكثر المقدمات التى أخذوا منها هذه النتيجة هى آراء متخيّلة، أو دعاوى باطلة، لا قضايا تاريخية ثابتة، كما بيناه عند ذكرها، وإذا بطلت المقدمات بطل لزوم النتيجة لها.
مثال ذلك: زعمهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلم سمع من نصارى الشام خبر غلب الفرس وظهورهم على الروم؛ ليوهموا النّاس أنّ ما جاء فى أول سورة الروم من الإنباء بالمسألة، وبأن الروم سيغلبون الفرس بعد ذلك؛ هو مستمد مما سمعه صلّى الله عليه وسلم من نصارى الشام، وهذا مردود بدلائل التاريخ والعقل؛ فأما التاريخ فإنه يحدثنا بأن ظهور الفرس على الروم كان فى سنة 610 م وذلك بعد رحلة محمد الأخيرة إلى الشام بأربع عشر سنة وقبل بدء الوحى بسنة. ثم إن التاريخ أنبأنا أنّ دولة الروم كانت مختلة معتلّة فى ذلك العهد بحيث لم يكن أحد يرجو أن تعود لها الكرّة والغلب على الفرس، حتى أن أهل مكة أنفسهم هربوا بالخبر، وراهن أبو بكر أحدهم على ذلك وأجازه النبى صلّى الله عليه وسلم فربح الرهان «1»، وأما العقل فإنه يحكم بأن مثل محمد فى سمو إدراكه المتفق عليه لا يمكن أن يجزم بأن الغلب سيعود للروم على الفرس فى مدة بضع سنين، لا من قبل الرأى ولا من الوحى النفسى المستمد من الأخبار غير الموثوق بها، وقد صحّ أن انتصار الروم وقع سنة 622 م، وكان وحى التبليغ للنبى صلّى الله عليه وسلم سنة 614 م، فإذا فرضنا أنّ سورة الروم نزلت فى هذه السنة يكون النصر قد حصل بعد ثمانى سنين، وإن كان فى السنة الثانية تكون المدة سبع سنين، وهو المعتمد فى التفسير، والبضع يطلق على ما بين الثلاث والتسع.
والحكمة فى التعبير عن هذا النبأ بقوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 2 - 4]، ولم يقل بعد سبع أو ثمان