وأما أخبار القرآن عن عالم الغيب المادى من تكوين وتاريخ، فمن معجزاته الإيجابية أنه جاء فيه كثير من التعبيرات التى كشف العلم والتاريخ فى القرون الأخيرة من معانيها ما لم يخطر فى بال أحد من أهل العصر الذى نزل فيه. ومن معجزاته السلبية: أنه لم يثبت على توالى القرون بعد نزوله شىء قطعى شيئا من أخباره القطعية، على أن تكون أخباره هذه إنما جاءت لأجل الموعظة والعبرة والتهذيب، ويكفى فى مثل هذا أن تكون الأخبار على المألوف عند الناس، ولا ينتقد عليها إذا لم تشرح الحقائق الفنية والوقائع التاريخية لأنها ليست مما يبعث الرسل لبيانه، ومنها ما لا يمكن الوقوف عليه إلا بالتعمق فى العلم أو الاستعانة بالآلات التى لم تكن معروفة عند المخاطبين الأولين بالوحى، بل لا يصح أن يأتى فيها ما يجزمون بإنكاره بحسب حالتهم العلمية لئلا يكون فتنة لهم، وقد قال نبى الإنسانية العام:
«أنتم أعلم بأمور دنياكم»، رواه مسلم فى صحيحه.
ومن دقائق تعبير القرآن فى النوع الأول (التكوين) التى اختلف فى فهمها الناس أن مادة الخلق «دخان» وهو عين ما يسمى السديم، وأنّ السّماوات والأرض كانتا رتقا (أى مادة واحدة متصلة) ففتقهما الله وجعل كلا منهما خلقا مستقلا، وبث فيهما أنواع الدواب، ولم يكن أحد يعتقد أو يتصور أن فى شىء من هذه الأجرام السماوية حيوانا، وأنه جعل من الماء كل شىء حى، وأنه خلق جميع الأحياء النباتية والحيوانية أزواجا، فجعل فى كل منهما ذكرا وأنثى، وأنه جعل كل نبات موزونا، يعنى أن عناصره متوازنة على نسب مقدرة، وأنه أرسل الرياح لواقح، وأنه يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ والتكوير هو اللف على الجسم المستدير، وهو صريح فى كروية الأرض ودورانها اللذين كانا موضوع الجدال والنضال بين العلماء إلى عهد قريب بعد الإسلام، وأمثال هذا فيه كثير حتى إن بعض آياته فى الشمس والقمر والنجوم وسبحها فى أفلاكها وجريانها إلى أجل مسمى، وفى تناثر الكواكب عند خراب العالم لا تفهم فهما صحيحا إلا فى ضوء علم الفلك الحديث.
وأعجب منه إثباته أنّ للخلق سننا لا تتبدل وبيانه لكثير منها، ومن سنن الاجتماع التى لم يهتد البشر إليها بالبحث العلمى إلا بعد بيان القرآن لها بقرون، ولم أوردها فى هذا البحث، لأنها قد يقال إنها مما يعرف بالعقل، وليس من موضوع الوحى. وسأفصلها فى الجزء الثانى المتمم لهذا الكتاب.