ورأيت بعض المشتغلين بالفقه يقولون: إن الاسترقاق والسبى من حقوق المحاربين الخاصة لا من حقوق أولى الأمر العامة، فليس للإمام الأعظم ولا للقائد العام فى الحرب المفوض من قبله مع أركان حربه أن يجبروا المقاتلين على المن عليهم، ولا على الفداء بهم لاقتضاء المصلحة العامة لأحد الأمرين، بدليل أن النبى صلّى الله عليه وسلّم لم يجبر المسلمين على التخلى عن سبى هوازن إجبارا، بل جعله بتطييب أنفسهم له، ووعد من لا تطيب نفسه بترك حصته بالتعويض عليه.
وفى هذا الفهم غلط من وجوه كثيرة «منها» أن مثل هذه المسألة إذا لم تكن من المصالح العامة التى تناط أولى الأمر فليس فى الأمم مصالح عامة قط. «ومنها» أنه يعارض
نصا فى القرآن بواقعة حال عملية، «ومنها» أن النبى صلّى الله عليه وسلّم جمع فى تلك الحال بين حكمة الدين ورحمته العامة، وبين تربية المسلمين التى اقتضاها الزمان والمكان، والقوة والضعف فى الإيمان، وحال طلقاء مكة والمؤلفة قلوبهم فى إظهار الإسلام، فوعد وفد هوازن بإحدى الطائفتين- الغنائم أو السبى- مع علمه بأنهم يختارون السبى. ثم إنه أعطى المؤلفة قلوبهم من الغنائم أكثر من غيرهم، ولم يعط الأنصار شيئا وقد فصّلنا ذلك فى تفسير الآيتين (25، 26) من سورة التوبة (?).
وإنما تكون مصلحة الاسترقاق أرجح من هاتين المصلحتين- أى المن على الأسرى والفداء بهم فى حالات قليلة لا تدوم كأن يكون المحاربون للمسلمين قوما قليلى العدد كبعض قبائل البدو يقتل رجالهم كلهم أو جلهم. فإذا ترك النساء والأطفال والضعفاء من الرجال لأنفسهم لا يكون لهم قدرة على الاستقلال فى حياتهم فيكون الخير لهم أن يكفلهم الغالبون ويقوموا بشئونهم المعاشية، ثم تجرى عليهم أحكام الطريقة الثانية فى تحريرهم وقد يتسترون بالنساء فيكن أمهات أولاد وربات بيوت فحرائر، أو محصنات من الفواحش مكفيات أمر المعيشة على الأقل، وكذلك الأطفال يكفلهم المسلمون ويربونهم على عقائد الإسلام وفضائله، ثم ينالهم العتق فى الغالب لما سيأتى فى وجوهه، فيكونون كسائر أحرار المسلمين علماء وأغنياء وحكاما وأمراء. وقد أفضى هذا إلى تغلب العتقى (الموالى) من الأعاجم على السيادة والسلطان فى الأمة، بعد إهمال هداية الدين فى دولها.
وقد سنّ النبى صلّى الله عليه وسلّم لأمته ترجيح المن على الأسارى والسبايا بالعتق قولا وعملا فى غزوة بنى المصطلق، وغزوة فتح مكة، وغزوة حنين كما هو مفصل فى كتب السيرة النبوية