والله تعالى يوحى إلى ملائكته ما يأمرهم بفعله كقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12]، ويوحى إلى ملك الوحى ما يوحيه الملك إلى الرسول كقوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10]، أى: أوحى إلى عبده جبريل عليه السلام ما أوحى جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم.
وقال شيخنا الأستاذ الإمام فى رسالة التوحيد بعد تعريف الوحى لغة: «وقد عرفوه شرعا أنه إعلام الله تعالى لنبى من أنبيائه بحكم شرعى ونحوه»، أما نحن فنعرفه على شرطنا بأنه: عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت. ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام: وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب من غير شعور منها من أين أتى. وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور.
هذا التعريف يشمل أنواع الوحى الثلاثة الواردة فى قول الله عزّ وجلّ: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] فالوحى هنا: إلقاء المعنى فى القلب، وقد يعبر عنه بالنفث فى الرّوع- وهو بالضم: القلب والخلد والخاطر، والكلام من وراء حجاب: هو أن يسمع كلام الله من حيث لا يراه كما سمع موسى عليه السلام النداء من وراء الشجرة، وأما الثالث: فهو ما يلقيه ملك الوحى المرسل من الله إلى رسول الله فيراه متمثلا بصورة رجل، أو غير متمثل، ويسمعه منه أو يعيه بقلبه.
وتعبيره يشمل- قبل التفرقة بينه وبين الإلهام- ما يسميه بعضهم بالوحى النفسى وهو الإلهام الفائض من استعداد النفس العالية، وقد أثبته بعض علماء الإفرنج لنبينا صلّى الله عليه وسلم كغيره، فقالوا: إن محمدا يستحيل أن يكون كاذبا فيما دعا إليه من الدين القويم والشرع العادل والأدب السامى، وصوره من لا يؤمنون بعالم الغيب منهم أو باتصال عالم الشهادة به بأن معلوماته وأفكاره وآماله ولدت له إلهاما فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية على مخيلته السامية، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك ماثلا له، وعلى سمعه فوعى ما حدثه الملك به.
فصار الخلاف بيننا وبين هؤلاء فى كون الوحى الشرعى من خارج نفس النبى نازل عليها من السماء كما نعتقد، لا من داخلها فائضا منها كما يظنون، وفى وجود ملك روحانى مستقل نزل من عند الله عليه صلّى الله عليه وسلم كما قال عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ