كانت العرب تنكر الوحى والرسالة إلا أفرادا من بقايا الحنفاء فى الحجاز وغيره، ومن دخل فى اليهودية والنصرانية لمجاورته لأهلهما، وكانت شبهة مشركى العرب وغيرهم على الوحى استبعاد اختصاص الله تعالى بعض البشر بهذا التفضيل على سائرهم، وهم متساوون فى الصفات البشرية بزعمهم، ويقرب منهم اليهود الذين أنكروا أن يختص الله تعالى بهذه الرحمة والمنة من يشاء من عباده، وأوجبوا عليه أن يحصر النبوة فى شعب إسرائيل وحده، كأن بقيّة البشر ليسوا من عباده الذين يستحقون من رحمته وفضله ما أعطاه لليهود من هداية النبوة. على أنهم وصفوا الأنبياء بالكذب والخداع والاحتيال على الله ومصارعته، وارتكاب كبائر المعاصى- كما تقدم فى
المقصد الأول- ووافقهم النصارى على حصر النبوة فيهم؛ وأثبتوا قداسة غير الأنبياء من رسل المسيح وغيرهم من الباباوات والعباد، وعبدوهم أيضا، على أنهم نقلوا عن بعض خواص تلاميذه إنكارهم إياه فى وقت الشدة، وعن بعضهم أنه أسلمه لأعدائه، وأنه لعن أكبرهم وسماه شيطانا، وأنه قال لهم: «كلكم تشكون فىّ هذه الليلة»، واتخذ كل من الفريقين أحبارهم ورهبانهم وقساوسهم أربابا من دون الله تعالى بأن نحلوهم حق التشريع الدينى من وضع العبادات والتحليل والتحريم (?)، وكل ذلك من الكفر بالله وإنكار عدله، وعموم رحمته وفضله، ومن مفسدات نوع الإنسان، وجعل السواد الأعظم منه مستعبدا لأفراد من أبناء جنسه، فأبطل الله تعالى كل ذلك بما أنزله من كتابه على خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم.
قال الله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل: 36]، وقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24]، وكرّم الله الإنسان وجعل التشريع الدينى من حقوقه وحده، وإنما النبيون والرسل مبلغون عنه وليسوا بمسيطرين على الأقوام، وطاعتهم تابعة لطاعته، فقد أبطل ما نحلهم الناس من ربوبية التشريع، كما أبطل عبادتهم