الوحي المحمدي (صفحة 121)

من الأذهان، تارة بالحجة والبرهان، وتارة بضرب الأمثال، وقد تكرّر فى آيات بينات، لعلها تبلغ المئات، ومن إعجازه أنها لا تمل ولا تسأم، بل لا يكاد يشعر قارئها بتكرار معانيها، وإن تقارب جنسها ونوعها وترادفت سورها. فتأمل ذلك فى سور المفصل، ترى تكرار الكلام على البعث والجزاء فيها بما لا يخطر على بال بشر من اختلاف الأسلوب والنظم والفواصل ولا سيما المتناسبة المتصلة كالمرسلات مع النبأ، والنازعات مع عبس، والتكوير مع الإفطار، والمطففين مع الانشقاق وغيرهن.

قلنا: إنّ الإيمان بالبعث والجزاء، وهو الركن الثانى فى جميع الأديان، من لوازم الركن الأول وهو الإيمان بالله المتصف بجميع صفات الكمال، المنزه عن البعث فى أفعاله وأحكامه، ولهذا كان من أظهر أدلة القرآن عليه قوله بعد ذكر البعث وجزاء الكافرين فى آخر سور المؤمنون: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]، وقوله فى آخر سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً [القيامة: 36]، فكفر الإنسان بهذا الركن فى أركان الإيمان يستلزم كفره بحكمة ربّه وعدله فى خلقه وكفره بنعمته بخلقه فى أحسن تقويم. وبتفضيله على أهل عالمه (الأرض) حيث سخّرها وكل ما فيها لمنافعه، وعلى كثير ممن خلق فى عالم الغيب الذى وعده بمصيره إليه، ويستلزم جهله بما وهبه من المشاعر والقوى والعقل. وجهله بحكمته فى خلقه مستعدا لما ليس له حد ونهاية من العلم. الدال على أنه خلقه لحياة لا حد لها ولا نهاية فى الوجود.

ومن لوازم هذا الكفر والجهل كله احتقاره لنفسه باعتقاده أنه خلق عبثا لا لحكمة بالغة.

وأن وجوده فى الأرض موقوت محدود بهذا العمر القصير المنغص بالهموم والمصائب والظلم والبغى والآثام. وأنه يترك سدى لا يجزى كل ظالم من أفراد بظلمه. وكل عادل وفاضل بعدله وفضله. وإذا كان هذا الجزاء غير مطرد فى الدنيا لجميع الأفراد، تعين أن يكون جزاء الآخرة هو المظهر الأكبر للعدل العام، كما قال تعالى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: 185].

ومن أبدع أساليبه المكررة الجامعة وأروعها: المحاجة فى النار بين الأتباع والمتبوعين والغاوين والمغوين والضالين والمضلين، من شياطين الإنس والجن. وبراءة بعضهم من بعض ومنه التنادى والتحاور بين أهل الجنة وأهل النار.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015