كان كل من يدخل فى الإسلام قبل الهجرة يلقن ما نزل من القرآن- ليعبد الله بتلاوته- ويعلم الصلاة ولم يفرض فى مكة من أركان الإسلام غيرها. فيرتل ما يحفظه فى صلاته اقتداء بالنبى صلّى الله عليه وسلم إذ فرض الله عليه التهجد بالليل من أول الإسلام.
قال تعالى فى أول سورة المزمل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 1 - 4]، ثم قال فى آخرها:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20]، أى: فى صلاة الليل وغيرها، ثم ذكر الأعذار المانعة من قيام الليل كله ما كان منها فى ذلك العهد؛ كالمرض والسفر وما سيكون بعد سنين، وهو القتال فى سبيل الله.
ومما ورد فى صفة الصحابة رضى الله عنهم أن الذى كان يمر ببيوتهم ليلا يسمع منها مثل دوى النحل من تلاوة القرآن، وقد غالى بعضهم فكان يقوم الليل كله حتى شكا منهم نساؤهم فنهاهم النبى صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، وكان هو يصلى فى كل ليلة إحدى عشرة ركعة يوتر بواحدة منهن، وما قبلها مثنى مثنى، وكان هو يطيل فيهن حتى تورمت قدماه من طول القيام فأنزل الله عليه مرفها ومسليا: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 1، 2] إلخ.
فتربية الصحابة التى غيرت كل ما كان بأنفسهم من مفاسد الجاهلية، وزكّتها تلك التزكية التى أشرنا إليها آنفا، وأحدث أعظم ثورة روحية اجتماعية فى التاريخ إنما كانت بكثرة تلاوة القرآن فى الصلاة وتدبره فى غير الصلاة، وربما كان أحدهم يقوم الليلة بآية واحدة يكررها متدبرا لها، وكانوا يقرءونه فى كل حال حتى مستلقين ومضطجعين كما وصفهم الله بقوله:
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191]، وأعظم ذكر الله تلاوة كتابه المشتمل على ذلك أسمائه الحسنى، وصفاته المقدسة، وأحكامه وحكمه وسننه فى خلقه، وأفعاله فى تدبير ملكه كما تقدم.
وقد وصف الله تعالى فعل القرآن فى هؤلاء المؤمنين بقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].