واعلم أني ذاكر في ذلك فصلًا ينتفعُ به الفقيهُ، وذلكَ أن المحققينَ من أهلِ الأصولِ عابوا أخذَ الأصولِ من الفروعِ، واعتلّوا في ذلكَ بتحقيقٍ واقعٍ يوقعُ ايجابَ القبولِ منهم.
فقالوا: إنَّ الفروعَ يحسنُ أن تبنى عليها الأصول، فلا يحسنُ بناءُ الأصول على الفروع لما قد استقر من أن الفرعَ ما ابتنيَ على غيرهِ، والأصلُ ما ابتني عليه غيرُه.
قالوا: ولأنَّ المسألةَ من مسائل الفروعِ يجبُ فيها الفورُ، لدليلٍ أوجبَ القولَ فيها بالفور، فلا يجوَزُ أن يوجدَ الأمرُ المطلقُ بحكمِ اللغةِ الفورَ من فرعٍ مقيدٍ بقرينةٍ أو دلالةٍ أوَجبت له الفورَ، ولكنني أخذتُ هذا الأصلَ من أن أصلَ مذهبهِ الاحتياطاتُ في أُصولهِ وفروعهِ، ومن الاحتياط؛ التقديُم والفورُ، فمن ذلك قوله: الصلاةُ تجبُ بأوَّلَ الوقت وجوباً مستقراً، وإنَ الزكاةَ تجب عليه بالحولِ، ولا يُعتَبرُ إمكان الأداءِ، ويجبُ الحج على الفورِ، وصومُ يوم الشك تعجيلًا، فنحنُ نستدلُّ بهذهِ المسائلِ الكثيرةِ أنها جاءت مَن أصل له، وهو قولُه بالتعجيل والاحتياطِ والفورِ من ذلك القبيلِ، والفرعُ ان لم يبنَ عليه لكنه يكونُ دليلًا على أصلِ الرجلِ، سيما إذا عُلل بالاحتياطِ، فيصير تعليلُه أصلًا.
فهذا تحقيقُ مذهبنِا، وهو مذهبُ أكثرِ أصحابِ أبي حنيفة (?)،