وَقد علمت أَن نظام الْعَالم يَقْتَضِي الْأَمر وَالنَّهْي وَلَا يتمان إِلَّا بآمر وناه ومأمور ومنهي. وَهَذِه أَرْكَان ودعائم. وَلَكِن هَهُنَا مكتومة بالإشراف عَلَيْهَا يكمل الْإِنْسَان فَيعرف الملتبس من المتخلص. الْجَواب: قَالَ أَبُو عَليّ مسكويه - رَحمَه الله: إِن الْأَمر الَّذِي أَوْمَأت إِلَيْهِ والحظر إِنَّمَا يقعان فِي جنس الشَّهَوَات الَّتِي تجمح بالإنسان إِلَى القبائح وبلزوم الْأَعْمَال الَّتِي فِيهَا مشقة وتؤدى إِلَى الْمصَالح. وَلما كَانَ الْإِنْسَان ميله بالطبع إِلَى تعجل الشَّهَوَات غير نَاظر فِي أعقاب يَوْمه وَإِلَى الهويني والراحة فِي عَاجل الْيَوْم دون مَا يكْسب الرَّاحَة طول الدَّهْر - ثقل عَلَيْهِ حظر شهواته وَالْأَمر الَّذِي يرد عَلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي فِيهَا مشقة. وَهَذِه حَال لَازِمَة للْإنْسَان مُنْذُ الطفولة فَإِن أثقل الْأَشْيَاء عَلَيْهِ منع وَالِديهِ مأربه وَأَخذهمَا إِيَّاه بلف الْأَعْمَال النافعة ثمَّ إِذا كمل صَار أثقل النَّاس عَلَيْهِ طبيبه ومعالجه ونصيحه فِي المشوره وسلطانه الَّذِي يَأْخُذهُ بمنافعه ومصالحه. وَهَذِه حَال النَّاس المنقادين لشهواتهم المتبعين لأهوائهم. وَقد يَقع فيهم الْجيد الطَّبْع الصَّحِيح الروية القوى الْعَزِيمَة فَلَا يَأْتِي من الْأُمُور إِلَّا أجملها قامعاً لهواه متحملاً ثقل مئونة ذَلِك لما ينتظره من حسن الْعَاقِبَة وإحمادها. وَمثل هَذَا قَلِيل بل أقل من الْقَلِيل وَلَيْسَ إِلَى أَمْثَاله يُوَجه الْخطاب بِالْأَمر والنهى وَلَا إِيَّاه خوف بالوعد والوعيد وأنذر الْعَذَاب الْأَلِيم.