260 - وحكى الوزير أبو القاسم عبيد الله بن سليمان قال: حدثني علي بن يحيى قال: اجتاز شجاع بن القاسم يوماً في الشرب من دار الخلافة، فخرقت كلاب كانت فيه ثيابه، ودخل على المستعين على تلك الحال، فقال به: ما بالك على هذه الصورة؟ فقال: داس كلب ذنبي فخرقت ثيابه! فضحك المستعين حتى زال تماسكه.
261 - وحكى إبراهيم بن المدبر قال: حدثني أحمد بن عمار قال: عملت شعراً رائجياً وواقفت سعيد بن حميد أن يلقيه على رجل من الطالبين كان جلداً خبيثاً، ولنا ملازماً وصديقاً، ويواقفه على أن يقصد به شجاعاً وينشده إياه على أنه مديح له فيه، وبذلنا له عن ذلك براً، والشعر هو هذا:
شجاعٌ نجاعٌ كاتبٌ لاتبٌ معاً ... كجلمودِ صخرٍ حطهُ السيلُ من علِ
خبيصٌ لبيصٌ مستمرٌّ مقوّم ... كثيرٌ أثير ذو شمالٍ مهذَّب
فطينٌ لطينٌ آمرٌ لك زاجرٌ ... حصيفٌ لصيفٌ كلُّ ذلك يعلمُ
بليغٌ لبيغٌ كل ما شئتَ قلته ... لديه وإن تسكت من القول يسكن
أديبٌ لبيبٌ فيه عقلٌ وحكمةٌ ... عليمٌ بشعري حين أنشدُ يشهدُ
كريمٌ عليمٌ قابضٌ متباسطٌ ... إذا جئته يوماً إلى البذلِ يسمح
فحفظه الطالبي ومضى إلى شجاع وقال له: ليس الشعر أعزك الله من صناعتي، وقد قلت شيئاً أرجو أن أوافق عليه، وجعلته مديحاً لك وجزاء عن إحسانك إلي وإلى بني عمي، فإن رأيت أن تسمعه مني؟ فقال له: قد أغناك الله عنه مع شرفك ووجوب حقك! قال: أحب أن تتفضل علي بذلك، واندفع فأنشد الأبيات، وشجاع مصغ إليه، فلما فرغ من إنشادها شكره عليها، ودخل إلى المنتصر فتنجز له عشرة آلاف درهم صلة، وأرزاقه ألف درهم في كل شهر، وعاد إلينا الطالبي فقال: أنتما السبب بما وصل إلي، ووالله لا أخذت منكما شيئاً! وكنا وعدناه بألف درهم.
262 - قال الحسين بن يحيى: ما سمعت شجاعاً ينشد شعراً قط غير بيت كان يتمثل به كثيراً:
وإذا تكونُ كريهةٌ أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندبُ
263 - وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي رضي الله تعالى عنه قال: كان لروزبهان بن ونداخرشيذا جد أمير الديلم كاتب يعرف بأبي الحسن علي بن أبي الحسين القمي، وقد استخلفه بحضرة معز الدولة أبي الحسين بن بويه ببغداد وعول عليه في مراعاة إقطاعه بالسواد، فاتفق أن كان الوزير أبو محمد المهلبي جالساً في دار معز الدولة بباب الشماسية على الأرض يشاهد البناء فيها، وأبو الحسن القمي هذا بين يديه مع جماعة، فنهض القمي وقرب من الوزير كأنه يريد أن يساره بشيء، ثم رفع يده ولطم وجه الوزير وقال: دبابة! بالدال وكانت بقة، فقال له: يا جاهل فإذا كانت ذبابة تقتلها على وجهي! فقال: ذاك صغار لك خرطوم يلسع، فقال له: قم فقد سقط عنك القلم! فانصرف وهو يقول: إنما خدمنا! والجماعة تضحك منه وتعجب.
264 - وحكى أبو رفيد الأزدي قال: أكثرنا الضجيج على عبيد الله بن يحيى بن خاقان في أمر البصرة لما دخلها الزنج، فضجر يوماً وقال: ذهبت البصرة فمه؟ فقال فيه العدوي البصري:
قال الوزير المعاون الظَّلمةْ ... الأخرسُ اللفظ مشبه امرخمهْ
وقد شكونا ذهابَ بصرتنا: ... إن ذهبتْ بصرة العُرَيبِ فمهْ
إن ذهبتْ زال ملكُ آل بني ال ... عباسِ أهلِ الفخار والعَظَمَهْ
كلمةُ سوءٍ زلَّ اللسانُ بها ... وربَّ حتفٍ تسوقُه كلمهْ
وجعل الصبيان يصيحون إذا مر عبيد الله في الطريق: فذهبت البصرة فمه! ثم اختصروا وصاحوا: فمه فمه!! فبلغ ذلك أبا يعلى كاتب عبدي الله بن يحيى فقال: والله لأنفين العدوي من الدنيا. فقال العدوي: أما من الدنيا فلا، ولكن ربما نفاني من سر من رأى، وقال يهجوه:
نعمة اللهِ لا تعابُ ولكنْ ... ربمَّا استقبحتْ على أقوامِ
لا يليقُ الغنى بوجهِ أبي يع ... لى ولا نورُ بهجةِ الإسلامِ
وسخ الثَّوبِ والعمامةِ والبرِ ... ذونِ والوجه والقفا والغلام
لا تمسُّوا أقلامهُ فتمسُّوا ... من دماءِ الحسين في الأقلام
وبلغت هذه الأبيات عبيد الله، وقد تدوولت وشاعت وذاعت بسر من رأى، فتنكر لأبي يعلى، وكرده مقامه معه، ونبا عنه، وكانت السبب في خروج أبي يعلى عن سر من رأى.