"وكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم ولا بغي، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجه الله منها، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه، فيقال: ما سميت بكة إلا لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها"1.
وبلغ من احترام العرب لمكة أنهم كانوا لا يبنون بها بيتا إلى جوار بيت الله، وأنهم كانوا لا يبيتون فيها ولا يستحلون الجنابة بها تعظيما لشأنها2.
وظل هذا البلد الأمين يتمتع بتلك القدسية، لا يستحله إلا فاجر، وكان العرب يستحلون أحيانا الشهر الحرام، ولكنهم لا يستحلون مكة، وقد وجد بعضهم مخرجا من حرمة الأشهر الحرم بالنسيء، فكانوا يقدمون ويؤخرون ليواطئوا عدة ما حرم الله.
وقد رأينا في حرب الفجار أن هوازن قاتلت قريشا قتالا شديدا حتى إذا دخلت قريش الحرم أمسكت هوازن عنهم3، وأنذرتهم الحرب بعكاظ من العام المقبل 4.
ولم يرو لنا التاريخ أن أحدا انتهك حرمة البيت وأفلت من الهلاك في الدنيا قبل الآخرة، ولعل أبرهة كان أول المعتدين عليه بعد جرهم، وقد أثارت محاولة أبرهة حمية العرب فهبوا يدافعون عن البيت الحرام.
فخرج ذو نفر في قومه من أشراف اليمن وهزمهم أبرهة، وأخذ ذو نفر أسيرا، ثم تصدى له نفيل الخثعمي في قومه فتغلب عليهم أبرهة وأخذ نفيلا أسيرا، ولما رأت ثقيف قوة جيش أبرهة هادنته وأرسلت معه أبارغال ليدله على طريق مكة.
واعتقد أبرهة أنه خالص لا محالة إلى البيت، فأرسل رجلا من جيشه فاستولى على أموال أهل مكة، وساقها إلى أبرهة، وزادت ثقة أبرهة في قدرته على تحقيق أمله، وتهيأ لدخول مكة، وعبأ جيشه ولكن الله كان له بالمرصاد.
لم يكن هناك من يحمي البيت فحماه الله، ولم تستطع قوة صد جيش أبرهة فسلط الله عليه من صده وأهلكه {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} 5.
وزادت تلك الحادثة من مكانة مكة في نفوس العرب إذ ثبت لهم بما ليس فيه ريب حفظ الله لبيته وإهلاكه من أراده بسوء، كان ذلك في الجاهلية قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأما بعد البعثة فقد حدث أن اعتدت بكر على خزاعة وألجأتهم إلى دخول الحرم ولم تحترم بكر حرمة البيت، وإن هابت اقتحامه بادئ الأمر، ونبهوا قائدهم نوفل ابن معاوية الديلي، وقالوا له: "يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك"، ولكن نوفل كان قد صمم على الأخذ بثأره، ولم يعبأ بتحذير قومه، وقال: "لا إله اليوم، إنكم تسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ "6.