ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وفيها قصد السلطان بلد الإسماعيلية في قلعة مصياف فأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى خال صلاح الدين وهو شهاب الدين الحارمي صاحب حماة يسأله أن يسعى في الصلح فسأل الحارمي الصفح عنهم فأجابه صلاح الدين إلى ذلك وصالحهم ورحل عنهم وأتم السلطان صلاح الدين مسيره ووصل إلى مصر فإنه كان بعد عهده بها بعد أن استقر له ملك الشام، ولما وصل إلى مصر في هذه السنة أمر ببناء السور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة على جبل المقطم ودور ذلك تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع بالذراع القاسمي ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين.
وفي هذه السنة أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه بالقرافة وعمل بالقاهرة مارستان.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وفي جمادى الأولى منها سار السلطان من مصر إلى الساحل لغزو الإفرنج فوصل إلى عسقلان في الرابع والعشرين من الشهر فنهب وتفرق عسكره في الإغارات وبقي السلطان في بعض العسكر فلم يشعر إلا بالإفرنج قد طلعت عليهم فقاتلتهم أشد قتال وكان لتقي الدين بن شاهنشاه ولد اسمه أحمد من أحسن الشباب أول ما تكاملت لحيته فأمره أبوه تقي الدين بالحملة فحمل عليهم وقاتلهم فأثر فيهم أثراً كبيراً وعاد سالماً فأمره أبوه بالعود إليهم ثانية فحمل عليهم فقتل شهيداً وتمت الهزيمة على المسلمين وقاربت حملات الإفرنج السلطان فمضى منهزماً إلى مصر على البرية ومعه من سلم فلقوا في طريقهم مشقة وعطشاً شديداً وهلك كثير من الدواب وأخذت الإفرنج العسكر الذين كانوا يتفرقون في الإغارات أسرى وأسر الفقيه عيسى وكان من أكبر أصحاب السلطان فافتداه السلطان من الأسر بعد سنتين بستين ألف دينار ووصل السلطان إلى القاهرة نصف جمادى الآخرة. قال الشيخ عز الدين علي بن الأثير مؤلف الكامل رأيت كتاباً بخط يد صلاح الدين إلى أخيه توران شاه نائبه بدمشق يذكر له الواقعة وفي أوله:
ذكرتك والخطى يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر
ويقول فيه: لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة وما نجانا إلا الله سبحانه إلا لأمر يريده الله سبحانه وتعالى.