والثاني: معناه كذا وكذا وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين وأحظى الأمّة بهما، فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما وأما المتأخرون فقواهم تفرقة، وهممهم متشعّبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام مصنفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور، فإذا وصلوا إلى النصوص، وإن كان لهم همم تسافر إليها وصلوا إليها بقلوب وأذهان قد كلّت من السير في غيرها، وأوهن قواهم مواصلة السرى في سواها.
والمقصود أنّ الصحابة أغناهم الله -تعالى- عن ذلك كلّه، فاجتمعت قواهم على تينك المقدّمتين فقط، هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان وصفاتها، وصحتها وقوة إدراكها وكمالها، وكثرة المعاون وقلّة الصارف وقرب العهد بنور النبوة والتلقي من تلك المشكاة النبوية فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلدناه أسعد بالصواب فمنهم في مسألة من المسائل؟ ومن حدّث نفسه بهذا فيعزلها من الدين والعلم والله المستعان (?).
ولعلّ انتساب كثير من أهل العلم إلى المذاهب الأربعة ومذهب أهل الظّاهر ساعد في ضعف الأخذ بآثار الصحابة والعناية بها كالعناية بالحديث النبوي رواية ودراية وقد أشار إلى هذا ابن القيم -رحمه الله- (?).
ولا يعني هذا أن أتباع الأئمة جانبوا الصواب في معرفة الأحكام فأصول مذاهبهم معتمدة على الحديث والأثر، وبهذا كان ينادي الأئمة فما كان من تقريراتهم على منهاج الأئمة فهو الحق وبهذا حصل اتفاق الأتباع؛ لأنَّ المشكاة واحدة وما كان سوى ذلك فهو مكمن الخلاف بين الأتباع وبهذا يتبين أن أعلم الناس بالحديث والأثر سندًا ومتنًا أسعد بالصواب في كافة أبواب العلم.