الموازنة والترجيح
بالرجوع إلى الأدلة التي استدل بها الأطراف المختلفة نرى أن الأجوبة عنها كانت تلاحقها لتهبط بها عن مستوى الحجية، ماعدا دليلين للقائلين بالحمل مطلقا، سكت عنهما المجيبون، أو هكذا وصلا إلينا مسلمين، وهما الدليلان الأخيران المتضمن أولهما أن زيادة الحكيم في الكلام لزيادة البيان، والمتضمن ثانيهما أن موجب المقيد متيقن.
وتدقيق الفكر فيهما يقول إلى ما يلي:
1 - بالنسبة للأول كون زيادة الحكيم في الكلام لزيادة البيان، قضية لا يمتنع من التسليم بها أحد فيما اعتقد، ولكن مساسها بموضوع الحمل مطلقا وإفضاءها إليه للنظر فيه مجال واسع، لأن التسليم بالنسبة لكلام واحد اتحد فيه الحكم والسبب، أما إلباس هذا الثوب لكلامين اختلف فيهما سبب الحكم، فإنه بمنأى عن هذا التسليم، لأن الزيادة من الحكيم إذا كانت لحكمة، فإن السكوت عنه أيضا يكون لحكمة، وما دام الجمع بين الحكمتين ممكنا فإنه ينبغي المصير إليه، واختلاف السبب يجعل التصادم بينهما منتفيا، لأنه يجعل إبقاء المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده ممكنا.
2 - وأما بالنسبة للثاني، فإن القضايا الشرعية تحكمها نصوصها وما يقررها الشرع ولا يلغيها كون الشيء متيقنا، فإذا كان الشرع قد قرر إجزاء ما انتفى عنه قيد المقيد من أفراد المطلق فإن تيقن الموجب لا يلغي هذا التقرير.
والخروج عن العهدة يقرره الشرع، وحسب تقريره يتأتى، وتيقنه في نص، لا يقضى على ما في نص آخر بالإلغاء مادام اختلاف السبب فيهما قد حال دون ذلك.
وبعد الركون إلى وجاهة الأجوبة عن أدلة المانعين من الحمل مطلقا نعود إلى الجواب عن أدلة الحاملين بالقياس المتركز على اصطدام قياس المطلق على المقيد بالنص.
والدي يظهر - والله أعلم - أن توهم هذا الاصطدام يتلاشى إذا علمنا أن القياس المقتضي للحمل بمثابة بيان لأحد محتملات لحمل المطلق، وليس إلغاء له والاصطدام إنما يتأتى بناء على الثاني لا الأولى، والثاني إنما يتحقق بناء على نفي النص المطلوب، لقيد المقيد وهو لم يتعرض له بالنفي حتى يكون إثبات القياس له مفضيا إلى التصادم.
فإذا نأى القياس عن هذا التصادم بجانبه، ينبغي النظر إليه من حيث كونه دليلا أقره الشرع، وأعطاه هذا الإقرار صلاحية البيان.