فسبَّح ثمَّ اعترَّها فالتقت بهِ ... غلاماً سويَّ الخَلقِ ليس بتَوْأَمِ

بنفختِه في الصدر من جيبِ دِرعها ... وما يصرمِ الرحمنُ مِلْ أمرِ يُصْرمِ

فلمَّا أتمَّته وجاءَت لوضعهِ ... فآوى لهم من لومهم والتندُّمِ

وقال لها مَنْ حولها: جئتِ مُنْكَراً ... فحقٌّ بأن تُلْحَيْ عليهِ وترجمي

فأَدركها من ربِّها ثمَّ رحمةٌ ... بصدقِ حديثٍ من نبيّ مكلِّمِ

فقال لها: إنّي من الله آيةٌ ... وعلَّمني والله خيرُ معلِّم

وأُرسِلْتُ لم أُرسل غويّاً ولم أكن ... شقياً ولم أُبعث بفحشٍ ومأثَمِ

أما (يوحنَّا المعمدان) السابق أمام وجه المسيح فقد شاع ذكرهُ بين عرب الجاهليّة وقد رأيت أنَّ احدى الكتابتين العربيّتين السابقتين لعهد الاسلام كانت على باب كنيسة في حوران مشيّدة على اسم القديس يوحنَّا. وقد ذكر القرآن في سورة آل عمران ما روى عنهُ القديس لوقا في الانجيل من بشارة الملاك لأبيه زكريَّا ومن مولده العجيب ووَصفَهُ هناك بكونه "مصدّقاً بكلمةٍ من الله وسيّداً وحَصُوراً ونبيّاً من الصالحين" فاطرأ إيمانُه ورفعة مقامهِ وعفّتهُ ونبوّتهُ.

والعربُ يدعون يوحنّا المعمدان باسم (يحيى) وهو أيضاً مع اسم عيسى أحد ألغاز التبديل التي لم يذكر اللغوُّيون سببها. ومن المعلوم أن يوحنّا اسم عبرانيّ مركّب من كلمتين "يوحنَّن" (كلمة سريانية) أو "يهوحنن" (كامة سريانية) أي حنَّ اللهُ وترحّم ومنه السريانيّة (كلمة سريانية) فكيف إذن قُلب بيحيا. على رأينا أنّ الاسم قد تصحَّف في العربيَّة وذلك أنّه كان في الأصل "يُحَنَّا" فكتبوه قبل وضع النقط والحركات "كلمة" فقرأوهُ "يَحْياً أو يحيى". ولا نرى وجهاً آخر لتعليل هذا التغيير الذي حدث كما نظنّ قبل الاسلام فجرى عليه المسلمون وهم يدعونه بيحيى بن زكريا النبيّ أو يحيى الحَصُور لعفافه عن النساء. وقد ورد اسم يحيى في الشعر الجاهليّ كما سترى.

(والحواريون) تلاميذ السيّد المسيح عند العرب وقد اختلفوا أيضاً في أصل هذه اللفظة فقال البعض أن معناها القصّار لأن رسل المسيح كانوا يقصرون الثياب وهو قول لا سند له إذ لم يعرف أحد من الرسل بمزاولة القصارة. وقال غيرهم هو من الحَوَر أي شدّة بياض العين في شدّة سوادها قالوا دُعوا بذلك لصفاء نيَّاتهم وقيل بل لأنّهم كانوا صفوة الأنبياء. وإن صحَّ ذلك يكون اشتقاق الكلمة من السريانية (كلمة سريانية) اولى ومعناها الأبيض والصافي البياض والنقيّ. والصواب أنّ اللفظة حبشيّة (كلمة سريانية) (حَوَاري) ومعناها الرسول. وما لا ريب فيه أنّ اللفظة سبقت الاسلام. وقد جاءت في القصائد المعروفة بالأصمعيّات في بيت للضابئ بن الحارث بن ارطاة البرجميّ يشير إلى رغبة رسل المسيح في الموت لأجل سيِّدهم استشهاداً:

وكرَّ كما كرَّ الحواريُّ يبتغي ... إلى الله زُلفَى أن يَكُرَّ فيُقتَلا

وقال السموءَل يذكر الحواريَّ:

وسليمان والحواريّيحيى ... ومُتَى يوسفَ كأنّي وليتُ

يريد بالحواريّ يحيى على ما نظن يوحنّا الحبيب وكذلك ذكر مَتّى الرسول فخفّف. أما (يوسف) فلعلّهُ يوسف المعروف بأخي الربّ أو يكون يوسف اسم أبي متّى كأنّه أراد مُتّى بن يوسف.

ومؤنث الحواريّين (الحَواريّات) قالوا هنّ نساء الأَمصار لبياضهنّ. قال أبو جلدة وهو مسهر بن النعمان اليشكري:

فَقُل للحَواريّاتِ يبكينَ غيرنا ... ولا تبكيَنّا إلَّا الكلابُ النوابحُ

بكينَ إلينا خيفةً أن تُبيحها ... رماحُ النصارى والسيوفُ الجوارح

(قال) :"جعل أهل الشام نصارى لأنها تلي الرومِ وهي بلادها".

مفردات نصارى العرب الدالّة على رؤسائهم ورهبانهم

وكان للنصارى في جزيرة العرب كما في بقيّة البلادنظامهم الدينيّ ورُتَبهم من رؤساء ومرؤوسين يسوسهم الرُّعاة وزعماء الدين. ويمتاز بينهم العبَّاد والمنقطعون لخدمة الله في الرهبانيَّة. والدليل على ذلك ألفاظ متعدّدة وردت في آثار عرب الجاهليّة تشهد على قولنا شهادةً واضحة.

فمن ألفاظهم التي استعملوها للدلالة على رئيس النصارى "الأَبيل" وقد اتّخذوهُ للدلالة على السيّد المسيح كما ورد في البيت المنسوب للأعشى وللأخطل ولابن عبد الجن:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015