ومما يجدر بالاعتبار أن بين هؤلاء الشعراء قرابة يستدل بها أيضاً على وحدة دينهم فإن كليباً والمهلهل كانا خالي امرئ القيس بن حجر الكندي وأمة فاطمة أختهما. وكان المرقش الأكبر عوف بن سعد عم المرقش الأصغر عمرو بن حرملة وكان هذا عم طرفة ابن العبد وكانت أم طرفة وردة وهي أخت المتلمس جرير بن عبد المسيح 5ً ويؤيد قولنا في نصرانية هؤلاء الشعراء أن من يراجع دواوينهم أو ما روي عنهم من القصائد لا تجد فيها أثراً للشرك وعبادة الأصنام اللهم إلا في بعض الأقسام التي بينا أنها كانت ألفاظاً جارية على السنتهم كما ترى من أشكالها في السنة كل الشعوب دون إشارة إلى معتقد البتة (أطلب الصفحة 404) .

6ً وعلى خلاف ذلك تجد في شعرهم أثاراً بينة لاعتقادهم بالإله الواحد وبخلود النفس مع اقتباسات وإشارات واضحة إلى الأسفار المقدسة وإلى الأنبياء وإلى العادات النصرانية وقد جمعنا منها فصولاً واسعة مر ذكرها في كتابنا هذا فلترجع. وهذا يصح أيضاً في معظم الشعراء الذين جمعنا قصائدهم في كتاب شعراء النصرانية سواء كانوا من أياد أو مضر أو قضاعة أو طيء أو من القبائل اليمنية.

ولا شك إننا كنا وجدنا في منظوماتهم ما هو أدل على دينهم لو لم يفقد كثير منها. وزد على ذلك أهل اللغة الذين حاولوا جمع تلك الآثار لم يباشروا بتدوينها إلا في أواسط القرن الثاني للهجرة إذ كان قسم كبير منها فد أخذته يد الضياع أو تلف بالنسيان. وكان هؤلاء الرواة مسلمين لا يهمهم غير الفرائد الأدبية والنوادر اللغوية فيضربون الصفح عما يعزز ديناً غير الدين الإسلامي. ويثبت ذلك ما تجد في المعاجم من أبيات متفرقة دونت في مظانها يستفاد منها أشياء كثيرة عن نصرانية أهل الجاهلية رويناها في ما سبق كلآلئ فريدة من قلائد منفرطة.

وأن قيل ما لهم لم يصرحوا بنصرانية هؤلاء الشعراء فيزيلوا بذلك الشك والريب؟ السبب (الأول) لذلك كما قلنا الرواة السابق ذكرهم قلما سعوا في البحث عن أديان أولئك الشعراء وإذا تصفحت ما نقلوه من أخبار شعراء الجاهلية لا تكاد تجد تنويهاً بأحوالهم الدينية. وأن ذكروا شيئاً من ذلك رووه استطراداً لا تعمداً. ولولا إشارات خفيفة عن البعض الذين لا شبهة في نصرانيتهم لما تحققنا دينهم كقس بن ساعدة وعدي بن زيد وجابر بن حني والبراق بن روحان وبسطام بن قيس.

السبب (الثاني) لسكوت الرواة عن نصرانية أولئك الشعراء أنهم كانوا من قبائل عصامية صحيحة النسب فما كانوا يرون داعياً إلى ذكر دينها وكلها متساوية في شرف جنسها العربي من قحطان أو من عدنان على خلاف القبائل اليهودية فإن الكتبة الأقدمين يميزونها عن القبائل العربية ويصرحون بيهوديتها نسباً وديناً كقريظة والنضير والسبب (الثالث) الذي قضى على الرواة المذكروين الإضراب عن ذكر أديان الشعراء ما وجوده من الاختلاف في نصرانيتهم. فإن دعاة النصرانية الذين دخلوا في جهات العربية لم يكونوا على معتقد واحد فكان بينهم الصحيح الإيمان كالقديس ينتانوس (St pante'ne) واوريجانوس وموسى رسول الغسانيين والقديسين هيلاريون ونيلوس وافتيموس ثم عقبهم النساطرة في العراق وفي سواحل البحرين وعمان واليمن واليعاقبة في جهات الفرات وما بين النهرين وبادية الشام. وكان فر إلى جزيرة العرب كثيرون من المبتدعين لينجوا من نقمة ملوك الروم وغيرهم كاللاأدريين والمندائيين ومتنصري اليهود المدعوين بالإبيونيين والكسائيين وهلم جرا حتى أن القديس ابيفانيوس منذ القرن الرابع كان يصف جزيرة العرب بكثرة بدعها وأضاليلها.

ومن ثم إذا تكلمنا عن شيوع النصرانية في جزيرة العرب لسنا نقصد بها الديانة الكاثوليكية الخالية من كل ضلال بل الدين المسيحي عموماً مع ما اختلط به من آراء الهراطقة. والحق يقال أن توفر هذه الشيع وتعاليمها المتناقضة هي التي سولت للإسلام الفوز بالنصرانية في جزيرة العرب وفي البلاد الخارجة عنها. وقد ظهر بعد ذلك في نفس الإسلام شيء كثير من تلك البدع كما ترى في كتاب الملل والنحل للشهرستاني ولابن حزم وغيرهما فكانت كنار تحت رماد شبت بمساعي الخوارج والملحدين في أيام الخلفاء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015