ومما يؤيد الأمر أخبار بعض شعراء العرب، فمن ذلك ما ورد في كتاب الأغاني (5: 191) عن المرقش الأكبر حيث قال: "وكان مرقش يكتب وكان أبوه دفعه وأخاه حرملة وكاتا أحب ولده إليه إلى نصراني من أهل الحيرة فعلمهما الخط" وروي عن عدي بن زيد (الأغاني 2: 20) أن أباه زيد طرحه في الكتاب مذ نشأ ثم أرسله مع شاهان مرد إلى كتاب للفارسية حيث "تعلم الكتابة والكلام بالفارسية حتى خرج من أفهم الناس بها وافصحهم بالعربية" إلى أن صار كاتباً للملك النعمان، وجاء أيضاً في أخبار طرفة والتملس (الأغاني 21: 193 195) أن التلمس لما أراد أن يطلع على ما كتبه في حقهما عمرو بن هند إلى المكعبر عامله في البحرين عدل إلى غلام عبادي من غلمان الحيرة فأعطاه الصحيفة ليقرأها له ففعل ووقف على مضمونها إذ أوصى بقتلهما فألقى المتلمس الصحيفة في النهر وفر سالماً بنفسه وقتل طرفة، فيتضح من ذلك أن العباديين وكانوا من نصارى العرب كانوا يواظبون على المدارس، وقد ذكر في محل آخر (أغاني 18: 78) فضل معلم نصراني على سواه في البصرة في عهد بني أمية وولاية الحجاج، وفي طبقات ابن سعد (3: 258) أن في عهد عمر بن الخطاب كان جفينة النصراني من أهل الحيرة يعلم الكتاب في المدينة وذلك بعد أن أمر عمر بخروج النصارى من جزيرة العرب، وفيه دليل على حاجة المسلمين في أوائل الإسلام إلى المعلمين، وفي قائمة المعلمين التي سردها قدماء الكتبة كالجاحظ في البيان والتبيين (1: 101) وابن قتيبة في كتاب المعارف (ص185) وابن رسته في الإعلاق النفسية (ص216) أسماء ذميين وموال من نصارى ويهود كانوا يتعاطون مهنة التعليم هذا فضلاً عمن كانوا يختلفون إلى الرهبان والكهنة النصارى في صوامعهم وأديرتهم ليتعلموا القراءة والكتابة، كما ذكر عن أبي نصر البراق بن روحان (شعراء النصرانية ص141) أنه كان يتردد إلى راهب فيتعلم منه تلاوة الإنجيل، وكما قال في الأغاني (3: 14) عن ورقة بن نوفل أنه "كان يكتب بالعبرانية (يريد السريانية) من الإنجيل ما شاء أن يكتب" ولعل الراهب الذي أشار القريشيون إليه بقولهم عن محمد (سورة النحل) "إنما يعلمه بشرٌ" كان أحد معلمي النصارى في مكة، كما تعلم أهلها الكتابة من بشر بن عبد الملك النصراني أخي أكيدر الكندي صاحب دومة الجندل (السيوطي في المزهر 1: 39) وكانوا يسمون هذه الكتابة بالجزم أي الفصل سواء فصلوها عن خط حمير المعروف بالمسند كما ارتأى أبو حاتم (التاج 8: 228) أو بالحري لفصها عن الحروف الكلدانية وهي أقرب إليها، وفي فضل بشر على قريش قال أحد شعراء كندة منشداً:

لا تجحدوا نعماءَ بشرٍ عليكمُ ... فقد كان ميمونَ النقيبةِ أزهرا

أتاكمْ بخطّ الجزمِ حتَّى حفظتمُ ... من المال ما قد كان شتَّى مبعثراً

وأبقيتمُ ما كان بالمالِ مهملا ... وطأمنتمُ ما كان منهُ مبقَّرا

فأجريتمُ الأقلام عوداً وبدأةً ... وضاهيتم كتَّاب كسرى وقيصرا

وأغنيتمُ عن مسندِ الحيّ حمبيرا ... وما زبرت في الصحف أقلام حميرا

ومما نسبوه إلى قس بن ساعدة أسقف نجران في كتاباته أنه أول من كتب في رسائله "من فلان إلى فلان بن فلان" ونسبوا إليه فصل الخطاب قال بعد حمد الله والدعاء "أما بعد" افتتاحاً للخطاب، ومثلها قولهم "باسمك اللهم" زعموا أن أول من كتبها الشاعر النصراني أمسية بن أبي الصلت الثقفي.

فكل هذه الشواهد تدل على شيوع صناعة التعليم بين نصارى العرب واجتهادهم في تعميقها، وقد سبق لنا بين القبائل المنتصرة (ص124) ذكر قبيلة أياد وقد روينا أنهم اشتهروا بمعرفة الكتابة فقال فيهم أمية شاعرهم (سيرة بن هشام ص32) :

قومي أيادٌ أنهم أممُ ... أو لو أقاموا فتهزلُ النَّعمُ

قومٌ لهم ساحةُ العراقِ إذا ... ساروا جميعاً والقطُّ والقلمُ

ومثلهم الحميريون ولا سيما نصارى نجران وإنما كانوا يكتبون الخط المعروف بالمسند، قال ابن خلدون في مقدمته: "ومن حمير تعلمت مضر الكتابة العربية".

وإلى حذاقة حمير في الكتابة يشير أبو ذؤيب بقوله (لسان العرب 18: 306) :

عرفتُ الديار كخطّ الدويّ ... م حبرهُ الكاتبُ الحميري

طور بواسطة نورين ميديا © 2015