وقد أفادنا ياقوت الرومي (4: 413) أن قصر الخليفة المتوكل المعروف بالجعفري الجامع لكل محاسن البناء كان بانيه دليل بن يعقوب النصراني كاتب بغا الشرابي.

ومما وقف عليه الأثرييون والسياح في أيامنا من الأبنية الجليلة والآثار البديعة في جهات العرب في أنحاء مؤاب غربي وادي سرحان عدة قصور فخيمة ومعاقل جليلة سبق لنا ذكرها في المشرق غير مرة (1 [1898] : 631و481 ثم 4 [1901] : 765-766 الخ) كالمشتى وقصير عمرة وطوبة وفيها من الآثار الهندسية ومن التصاوير وتمثيل أحوال البادية كالصيد والغزوات والمآدب والصنائع ما إن ذهل العلماء لوجوده في البراري واتسعت مذ ذلك الحين مجلات العلماء ولاسيما تأليف المستشرقين في وصفها والبحث عن بناتها ومصوريها. واليوم قد رجح العلماء أن هذه الأبنية من عهد الوليد بن يزيد الليفة الأموي. وكان يفضل العيش في البادية على المدن. فصرف المقنطرة لبناء تلك الآثار لسكناه وسكنى جنوده وحاشيته. أما مهندسو هذه القصور فكانوا أيضاً من نصارى الشام ومصر والجزيرة وقد نسبها العلماء أولاً إلى بعض ملوك العجم ثم إلى بني غسان أو إلى بني لخم حتى رجحوا آخراً كوتها للوليد بناها له النصارى الوطنيون. وفي هندسة هذه القصور ما إستدلوا به على بلادهم المختلفة فكإن كل فريق منهم تتبع طريقته الهندسية التي إعتادها في موطنه. وقد وقف حضرة الأب هنري لامنس في تاريخ بطاركة مصر لساويروس بن المقفع على ما يؤيد نسبة هذه البنايات في بوادي العرب للوليد. عال ابن المقفع ما حرفه: " وضبط الملك (بعد هشام) الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكان جنسه يبغضه فبدأ يبني مدينة على اسمه في البرية وجعل إنساناً عليها وكان الماء بعيداً منها خمسة عشر ميلاً وجمع الناس من كل موضع وبنى فيها بيد قوية ومن كثرة الناس كان يموت كل يوم فيها جماعة من قلة الماء.

وكان يحمل لها الماء وألف ومئتا جمل وما يكفيهم كل يوم وكانوا الجمال فرقتين 600 تحمل يوماً و600 تحمل يوماً فوثب عليه رجل اسمه إبراهيم فقتله واخذ الملك منه وأطلق الأسارى فمضى كل منهم إلى موضعه".

ولو تتبعنا بعد هذا المآثر البنائية العربية في شمالي الشام وفي باديتها وماوراء الأردن وفي الحجاز واليمن وفي مصر لوجدنا آثار الهندسة المدنية النصرانية في كثير منها غير أن هذه الفنون الهندسية لم يحكم العلماء درسها ليتحققوا أصلها ودقائق صنعها وفي القليل مما ذكرناه دليل كافٍ لإثبات قولنا بأن للنصارى أكبر فضل في البناء العربي الديني والمدني معاً

2 و3 التصوير والنحت

يظهر الجمال في البناء بحسن رسمه وبراعة هندسته وانتقاء مواده ووحدة أقسامه وإتقان نظامه. أما في فني التصوير والنحت فإن الجمال يلوح بتمثيلها لمواليد الطبيعة الثلثة جمادها ونباتها وحيوانها فيخرجها المصور بهيئاتها وألوانها وملامحها وعواطفها فيكاد يحييها بقلمه الساحر. ويجسمها النحات فيظهرها بتنبؤاتها وتداويرها الطبيعية فيحكم صورة وجدانها كأنها لا ينقصها سوى الحركة والنطق وكما شاع بين نصارى العرب في الجاهلية فن هندسة البناء كذلك استخدموا فني التصوير والنحت. وأول شاهد يمكن الاستدلال به ما ورد في الشعر الجاهلي من ذكر الصور والدمى والتماثيل في بيع النصارى وأديرتهم فأعجبوا بجمالها ونقوشها البديعة حتى ضربوا بها المثل في الجمال فقالوا (الميداني300:1) "احسن من دمية". وقال عدي بن زيد (شعراء النصرانية ص455) : كدمى العاج في الحاريب كدمى بيض في الروض زهره مستنير وقال عبد الله بن عجلان (الأغاني19: 1.2)

غراءُ مثل الهلالِ صورتها ... ومثلُ تمثالِ بيعة الذهبِ

وقال الأحوص (الأغاني4: 49 والشريشي1: 291) :

كأنَّ لبنى صبيرُ غاديةٍ ... أو دميةٌ زيّنت بها البيعُ

ومثله للأخطل (ديوانه ص12) :

حليٌ يشبُّ بياضَ النَّحر وأقدهُ ... كما تصوُّرُ في الدير التماثيلُ

وقال عمر بن أبي ربيعة (الكامل للمبرد ص370) :

دميةٌ عند راهبٍ ذي اجتهاد ... صوَّروها في جانب المحارب

وقال أمية بن أبى عائذ (ديوان الهذيلين ص 177) : اودمية المحارب قد لعبتْ بها=أيدي البناةِ بزخرفِ الاتراصِ وقال الأعشى (لسان العرب 6:144) وبنى فعلين من لفظ الصلبان والصور:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015