لك الحمدُ والنَّعماء والملك ربَّنا ... فلا شيء أعلى منك مجداً وأمجدُ

مليكٌ على عرشِ السماء مهيمنٌ ... لعزَّته تعنو الوجوهَ وتسجدُ

عليهِ حجابُ النور والنورُ حولهٌ ... وأنهارُ نورٍ حولهُ تتوقدُ

مليك السموات الشدادِ وأرضها ... وليس لشيء عن قضاه تأوُّد الخ

وهو قد أنبأهم بوجود الملائكة وأوقفها على مقامهم وجوهرهم وخدمتهم أمام الله وطبقاتهم فذكروا منهم بأسمائهم جبرائيل ومن طبقاتهم السرافيل (الساروفيم) والكروبية (الكروبيم) والملائكة الحراس (راجع الصفحة 164 167) .

وقد أفادهم الوحي تكوين الله للعالم من العدم وإبداعه للكائنات جمادها ونباتها وحيوانها ثم خلقه للأبوين ووضعه لهما في جنة عدن ثم سقوطهما بتجربة إبليس ونفيهما من الفردوس ثم ما جرى لهما ولنسلهما ولا سيما بوقوع الطوفان. فكل هذه الأمور التي أثبتناها في النصوص المتعددة لم يعرفها العرب إلا بواسطة الوحي (راجع الصفحة 254 266) .

ومن الوحي استفاد العرب أيضاً معرفة أمور الآخرة كالنعيم في السماء للأبرار والجحيم قي جهنم للأشرار وبعث الأجساد في آخر العالم. وقد أتينا على كل ذلك بشواهد متعددة لا تبقي في الأمر ريباً (أطلب الصفحة 163 164 و167 170) .

ومما توفق العرب إلى معرفته بفضل الوحي سر بشارة الملاك جبرئيل لمريم العذراء وبقاء مريم على بتوليتها مع ولادة ابنها. وعرفوا السيد المسيح ورسالته إلى العالم وما أتاه من المعجزات واختياره لرسله الحواريين ودعوه "بأبيل الأبيلين المسيح بن مريما" وأنه هو الذي سيدين الأحياء والأموات (ص 186 190) وذكروا السابق أمام وجهه يوحنا المعمدان ودعوه يحيي.

وقد عظم عرب الجاهلية تعاليم المسيح ونعتوا دينه بالدين القويم كما قال لنابغة عن نصارى غسان:

مجلَّتهم ذاتُ الإله ودينهم ... قويمٌ فما يرجون غير العواقبِ

وقد عرف العرب كنيسة المسيح وما فيها من رؤساء كالبطاركة والأساقفة والقسوس والشمامسة ولا سيما الرهبان والنساك (ص 190 201) .

وكذلك أطلعوا على أسرار الكنيسة كالمعمودية والقربان القداس وعلى أعيادها كالسبار (البشارة) والدنح (الغطاس) والسباسب (الشعانين) والفصح والسلاق (الصعود) (ص 208 210 ثم 214 218) وعرفوا مناسك النصرانية وكنائسها وهياكلها وما تزان به من النقوش والصور وخصوصاً الصليب فخلفوا به كقول عدي بن زيد:

سعى الأعداءُ لا يألون شراً ... عليك وربِّ مكَّةَ والصليبِ

وقد حلف الآخر بالقربان الشبر الحمد لله الذي أعطى الشبر ومثله عدي: إذ أتاني خبرٌ من منعمٍ=لم أخنهُ والذي أعطى الشبر وحلف الأعشى بالرهبان الساجدين وبالناقوس فقال:

إني ورب الساجدين عشية ... وما صك ناقوس النصارى ابلها

أصالحكم حتى تبؤوا بمثلها ... كصرخة حبلى اسلمتها قبيلها

فهذه كلها أدلة أوضح من النور تبين ما كان للتعاليم اللاهوتية من النفوذ بين نصارى العرب استخلصناها من الشعر الجاهلي فقط وهي أحسن برهان على نفوذ الآداب النصرانية بينهم.

الفصل العاشر

الفنون الجميلة بين نصارى العرب

ليس شيء يدل على رقي الأمم كشيوع الفنون الجميلة بينهم لأن الجمال كما لا يخفى يسبي قلب الإنسان يجرده عن الأمور السالفة الدنية ليسموا به إلى عالم العقل فيقربه إلى مصدر الجمال سبحانه وتعالى. ولذلك قد قيل أن الفنون الجميلة هي أثمن درة في تاج الحضارة والمدنية.

على أن العرب من هذا القبيل تخلفوا عن بقية الشعوب المتقدمة كالكلدان والآشوريين والفرس والمصريين واليونان والرومان فلا تكاد تجد لهم أثراً يذكر في القرون السابقة لتاريخ الميلاد. والسبب في ذلك عيشتهم الفطرية البعيدة عن الحضارة وانتقالهم من البوادي اتنجاعاً لمراعي الإبل والمواشي واشتغالهم يالغزوات والحروب أما القرون التابعة للسيد المسيح فإنها لا تخلو من بعض آثار هذه الفنون الجميلة ولا جرم أن النصرانية بدخولها في جزيرة العرب أدخلت معها عنايتها الدائمة بترقية دعائم الحضارة ولاسيما في الأزمنة التي سبقت قليلاً عهد الإسلام وفي أوائل ظهوره كما سترى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015