وأشاروا إلى وقوف النفس أمام الديان وأدائها الحساب عن أعمالها وإلى جزائها خيراً أو شراً على موجب سلوكها. قال الحارث بن عباد (شعراء النصرانية 370) : كلُّ شيء مصيرهُ للزوالِ=غيرَ ربيّ وصالحِ الأعمالِ وقال مرة بن ذهل في مراقبة الله لإعمال البشر (فيه ص 248) :

الله للقوام بالمرصادِ

وقال طرفة (فيه 317) :

وكيف يرجّي المرءُ دهراً مخلداً ... وأعمالهُ عمَّا قليلٍ تحاسبهْ

وقال أمية ابن أبي الصلت (القسم الأول ص 168) :

يوقف الناس للحساب جميعاً ... فشقيٌَ معذَّبٌ وسعيدٌ

وقال عدي ين زيد:

أعاذلَ من تكتبْ له النار يلقها ... كفاحاً ومنْ يكتب لهُ الفوزُ يسعدِ

ومثله لزهير في معلقته:

فلا تكتمنَّ الله ما في صدوركم ... ليخفى ومَهما يُكتم الله يعلمِ

يؤخّر فيوضع في كتابٍ فيذَّخرْ ... ليوم الحساب أو يعجَّلْ فينقمِ

وللبيد أيضاً:

وكلّ امرئ يوماً سيعلمُ سعيهُ ... إذا كشفت عند الإلهِ المحاصلُ

وكأن حاتماً الطائي (شعراء النصرانية 121) نظم آية الكتاب "من يعط الفقير يقرض الرب" بقوله:

ولكنَّما يبغي بهِ اللهَ وحدهُ ... فأعطِ فقد أربحتَ في البيعة الكسبا

وأقوال عديدة مثلها تنطق بمعرفتهم لأحوال النفس والمعاد. وقد ذكرنا سابقاً (ص 32) كيف رد العلامة أوريجانس بعض المبتدعين من العرب عن ضلال سقطوا به في أمر النفس إذ زعموا أنها تفنى كالجسد ثم تبعث معه في الدينونة (3 علم الآداب والحقوق) مرجع هذا العلم أن يعطي كل ذي حق حقه مع مراعاة الأحوال والمقامات من رؤساء ومرؤوسين وأفراد وجماعات الخ. وبديهي أن أحوال أهل البادية تختلف عن سكان المدن وسننهم عن سننهم. ولشعراء الجاهلية تأييداً لهذه المبادئ الصحيحة أقوال لا تحصى جمعها القدماء فنحيل إليها. منها حماسة البحتري الذي نشرناه منذ عهد قريب. قسمه جامعه على 147 باباً تتناول معظم الآداب والأخلاق التي يتباحث بها الفلاسفة فيثبتون وجوبها وقوانينها وفقاً لتعاليم العقل وأحكامه المصيبة. أنظر مثلاً ما يقوله الأفوه الأودي في النظام السياسي وحكم أرباب الأمر (شعراء النصرانية ص 70) :

لا يصلح الناس فوضى لا سراةَ لهم ... ولا سراة إذا جهَّالهم سادوا

تهدى الأمورُ بأهل الرأي ما صلحتْ ... فإن تولت فبالأشرارِ تنقادُ

إذا تولَّى سراةُ الناس أمرهمُ ... نما على ذاك أمرُ القوم فازدادوا

وهذا النابغة الذبياني يعزو إلى الله سلطة الملوك حيث يقول للملك النعمان (شعراء النصرانية 656) :

ألم ترَ أنَّ الله أعطاك سورةً ... ترى كل ملكٍ دونها يتذبذبُ

وكل أديب يعرف خاتمة معلقة زهير وما في أبياتها الأخيرة من الأحكام المبينة على علم الأخلاق والآداب الاجتماعية. ومثلها في معلقة الحارث بن الحلزة. ولطرفة يطالب بحقوق أمه وردة (شعراء النصرانية 298) :

ما تنظرون بحقّ وردةَ فيكمُ ... صغر البنونَ ورهطُ وردةَ غيَّبُ

قد يبعثُ الأمر العظيمَ صغيرهُ ... حتَّى تظلَّ لهُ الدماء تصبَّب

قد يوردُ الظلمُ المبين آجناً ... ملحاً يخالطُ بالذعافِ ويقشبُ

والإثُم داءٌ ليس يرجى برؤهُ ... والبرُّ برءُ ليس فيه معطبُ

أدُّوا الحقوقُ تفسر لكم أعراضكمُ ... إن الكريم إذا يجرَّب يغضبُ

فهذه كلها أقوال من الفلسفة العقلية أبرزها عرب الجاهلية في صورة شعرية

2 التعاليم اللاهوتية بين نصارى الجاهلية

اللاهوت كما هو معلوم أساسه الوحي سواء كان مدوناً في الأسفار المقدسة أو شائعاً بتعليم الكنيسة. وقد عرف نصارى العرب الوحي وكتبه وأئمته الأنبياء والرسل كما أثبتا ذلك في الفصول السابقة (ص 179 190) .مثل قول الراهب ورقة بن نوفل:

وجبريلُ يأتيهِ وميكالُ معهما ... من الله وحيٌ يشرحُ الصدرَ منزلُ

وقد ورد هناك ذكر التوراة والزبور والإنجيل وبعض الأنبياء والرسل كموسى وداود وسليمان ويونان. ومما أخذوه عن الوحي معلومات عديدة عن الله جل جلاله كتوحيده وصفاته العلوية. فإن منها ما يستدل عليه بالوحي أكثر من القياس النظري والبرهان العقلي. فأي فيلسوف مثلاً وصفه تعالى كما فعل أمية بن أبي الصلت حيث قال:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015