ممن نبغوا في أعقاب هذا العصر وانتشرت معارفهم في العصر الموحدي الذي يليه. فالرشدية إذن، هذا المذهب الفلسفي الذي هو طابع الحياة الفكرية الأندلسية، إنما ظهرت في هذا العصر الذي يزعم صاحبنا أنه عصر اضمحلال الأندلس. وقل مثل ذلك أيضاً في الميمونية، وهي فلسفة موسى بن ميمون التي نسجت على منوال الرشدية في التوفيق بين العقل والدين بالنسبة لليهودية. وأعلام الفقه والتصوف مثل ابن رشد الكبير وأبي بكر بن العربي وابن عربي الحاتمي وابن سبعين هم كذلك من رجال هذا العصر أو عصر الموحدين. وكبار اللغويين والنحاة والمفسرين والمقرئين فضلاً عن مؤرخي الآداب، والشعراء والكتاب، الذين أنجبتهم الأندلس في حياتها الثانية بعد خضوعها لدولة المرابطين، هم ممن لا يأتي عليهم العد، ولا يتسع المقام حتى لذكر المشاهير منهم. فهل هذا هو الاضمحلال المتحدث عنه؟
نعم لقد اضمحلت قرطبة فذهبت تلك العبارة التي كانت بها على عهد الخلفاء، وخربت مدينة الزهراء التي أنشأها عبد الرحمن الناصر فامحت معها معالم حضارة باهرة، ولكن ذلك كان قبل دخول المرابطين إلى الأندلس، فمسؤوليته لا تقع عليهم.
ويعزو المستشرق الكبير تدهور الحياة الفكرية في الأندلس على عهد المرابطين والموحدين إلى تعصب الولاة واضطهادهم للعلماء، وهو أن كان يعني حادثة إحراق كتاب الإحياء للغزالي التي جرت على عهد المرابطين وما بدر من المنصور الموحدي من إساءة إلى الفيلسوف ابن رشد، فليت شعري كيف غفل عن اضطهاد ابن مسرة وإحراق كتب خليل بن عبد الملك المعروف بخليل الغفلة في عهد المروانية، وإحراق كتب الفلسفة والتعاليم اليونانية التي كانت في مكتبة الحكم من قبل المنصور بن أبي عامر، واضطهاد ابن حزم، وإحراق كتبه في دولة ابن عباد. ولماذا لم يعتبر ذلك نكسة للفكر وبدء اضمحلال الأندلس المعنوي؟
إن مثل هذه الأقوال التي هي أشبه بحديث خرافة منها بحديث العلماء: إن دلت على شيء فإنما تدل على نزعة خاصة أبعد ما تكون عن روح البحث والتحقيق، والواجب على المؤرخ الذي يحترم نفسه أن يترفع عن سفاسف الأقوال، ولا سيما إذا كانت لا تستند إلى دليل من نقل أو نظر.
لقد كان أساس دعوة المرابطين العلم، وعليه قامت دولتهم. وإن رحلة يحيى