الشاعر الغزل الرقيق الذي أوصى يوسف رجاله بالعناية به فأبقوا عليه، ولكنه ملأ الدنيا بكاء وعويلاً! . .
وهل تدري ما فعل به بعد؟ لقد كانت معاملته له بحيث لو لم يتفق المؤرخون على روايتها لقلت إنها من المستحيل على ملك بربري متوحش، كما يطيب لكثير من كتابنا وأدبائنا المهذبين أن يصفوه. لقد عامله بما لم تعامل به أوروبا الحديثة نابليون العظيم (?) وشتان بين نابليون والمعتمد! لقد أرسله إلى طنجة عروس المغرب، فلبث فيها ثم في مكناس شهوراً إلى أن فرغ الفاتح من أعماله وتقرر مصيره في أغمات. لا تقل وما أغمات? وأين تجيء أغمات من إشبيلية? فلم تكن أغمات إحدى القرى المهجورة في بلاد الصحراء والجزر المنقطعة في ظلمات المحيط، فهي كانت عاصمة الدولة قبل بناء مراكش، ويقول المؤرخون عنها أنها مدينة كبيرة في ذيل جبل كثير الأشجار والثمار والأعشاب والنباتات. ونهرها يشقها وعلى النهر أرحية كثيرة تدور صيفاً، وفي الشتاء يجمد النهر ويمر عليه الناس والدواب. وأهلها ذوو يسار وأموال، ولهم على أبوابهم علامات تدل على مقادير أموالهم. زاد ياقوت: وليس بالمغرب فيما زعموا بلد أجمع لأصناف الخيرات ولا أكثر ناحية ولا أوفر حظاً ولا خصبة منها.
وفي كلتا المدينتين طنجة وأغمات لم يكن بمنزلة المحبوسين السياسيتين التي نعرفها في هذا العصر، بل كان مطلق الحرية ليس عليه أدنى حجر، ولا على من يريد زيارته والوصول إليه. وقد اجتمع به شعراء طنجة وأدباؤها وطارحوه أحاديث الشعر والأدب كما وفد عليه جل أدباء الأندلس وهو في أغمات، وكانوا يقضون معه الأوقات الطويلة. وكذلك غيرهم من كل من يمت له بصلة أو يدلي إليه بسبب، وحسبك أنه استدعى ذات مرة طبيب يوسف الخاص لمعالجة بعض حريمه فلبى هذا طلبه، ولو علم كراهية يوسف لذلك لما أقدم عليه.
فليت شعري ماذا ينكر أصحابنا من هذه المعاملة التي هي في منتهى التسامح