الإطالة والإكثار. وأيضاً فقد يكون الأديب أديباً ولم يقرأ ((نفح الطيب))، فأما ((النبوغ المغربي في الأدب العربي)) فهو خلاصة منخولة، وزبدة ممخوضة، استخلصها صاحبها من مئات الكتب المصنفة، وألوف الأحاديث التي لقفها من أفواه العلماء الذين أخذ عنهم، وقلما رأيت مؤلفاً جمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، وجاء في ضمن 250 صفحة بالعريض الطويل في درجة هذا التأليف الذي هو ثمرة تحقيق وتدقيق، ودرس عميق لم يخرج إلى قراء العربية أحسن منه في بابه.
أشار العلامة مصنف ((النبوغ العربي)) في مقدمة كتابه إلى جمعه فيه بين العلم والأدب، والتاريخ والسياسة، وإلى تصويره الحياة الفكرية في المغرب، من لدن قدوم الفاتح الأول إلى يوم الناس هذا، ولعمري إن من قرأ هذا الوعد الذي جزم به المؤلف لاعتقد في البدء أنه بالغ فيه جداً، وحمل نفسه إداً، وزعم الإحاطة بموضوع تعجز عنه الجملة، ولا تفي به الكتب الجمة، وادعى فتح مغاليق تنوء مفاتيحها بالعصبة، إلا أنه عندما يبدأ القارئ بالمطالعة يجد المؤلف قد وعد فأنجز، وقرب الأقصى بلفظ موجز، وكان فعله محققاً لقوله، وقد مزج في كتابه بين الحركات الفكرية والحركات السياسية مزجاً عجيباً، حقق فيه الصلة الطبيعية التي لا تكاد تنفك في كل دور من أدوار الأمم بين العلم والسياسة، بحيث لا يرقى الواحد منها إلا رقى الآخر برقيه كاللازم والملزوم. وهو إن لم يكن توخى ذكر الفتوحات والمغازي، ولا حاول استقصاء مآثر السيف في جانب مآثر القلم، فقد ضمن في تضاعيف كلامه على تطور الحركات العقلية في المغرب من لدن الفتح العربي إلى الآن لمحة دالة يفهم منها القارئ تطور السياسة وتعاقب الدول المختلفة التي سادت المغرب من ذلك اليوم إلى الآن، فلا يسير المطالع لهذا الكتاب إلا على ضوء من أول الكتاب إلى آخره، ولا يكاد يشكل عليه فيه مسألة، ولا يستعجم موضوعاً، ولا يفتقر مقام إلى مقال، وهو مع هذا كله من الكتب المختصرة، فكأنما أراد به صاحبه لا مثالاً للتاريخ فحسب، بل مثالاً للبلاغة.
ومن أول ما شغل المؤلف به ذهن القارئ: قضية خفاء الأدب المغربي على المشارقة، وإنكار كثير من هؤلاء لكثير من مزايا إخوانهم المغاربة، وهو غير ملوم في الاحتفال بهذه القضية، وفي كونه نص عليها في أول كتابه؛ لأن للمغاربة حقاً