تركوا المدينة نظرا إلى الحظوظ العاجلة، تداخل الخلل والوهن في نياتهم، والتبست النقيصة بأعمالهم، وصار ذبهم في تلك البلاد عن أنفسهم وأهاليهم، وسعيهم في حيازة ما يقوم به أودهم بعد أن كان ذلك كله لله، عز وجل.
وقوله: (لو كانوا يعملون):
أي: لو كانوا يعلمون أن المدينة خير لهم مما اختاروا عليها من البلاد.
فإن قيل: فماذا تقول فيمن تحمل بأهله عنها، وهو يعلم أن المدينة خير له، وقلما يجهل ذلك مؤمن، لاسيما وقد نص عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ليس قد علم، ولم تكن المدينة خيرا له؟
قلنا: إنما ينفي العلم عن هذا الذى ذكرت، وينزل منزلة من لا يعلم؛ لأنه رغب عنها مع علمه بأنها خير له [73] وطنا ومدفنا في محياه ومماته، والعالم إذا ترك العمل بما علم، ولم يتنفع بعلمه - صار منسلخا عنه؛ فكان كالذى لا يعلم.
[1929] ومنه: حديث أبي هريرة رضى الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب ... الحديث).
(أمرت بقرية) أي: بنزول، وباستيطان قرية ونحو ذلك.
(تأكل القرى): تقول العرب: أكلنا بني فلان، أي: ظهرنا عليهم. وأصل الأكل للشيء: الإفناء له، ثم استعير لانستاح البلاد، وسلب الأموال؛ فكأنه قال: يأكل أهل القرى، وأضاف الأكل إليها؛ لأن أموال تلك البلاد تجمع إليها فتفتي فيها.
ويثرب: من أسماء المدينة، قيل: هو اسم أرضها؛ سميت باسم رجل من العمالقة كان أول من نزلها، وبه كانت تسمي قبل الإسلام، فلما جاء الله بالإسلام، غير النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الاسم؛ فقال: (بل هي طابة)،
وكأنه كرة هذا الاسم؛ لما يئول إليه من التثريب أو لغير ذلك.
وقوله: (وهي المدينة):
فيه - أيضا-: تنبيه على أن الاسم المقول متروك جعلت المدينة مكانه.
يحتمل: أن يكون قوله: (وهي المدينة) على وجه التفخيم؛ كقول الشاعر:
......................... هم القوم كل القوم يا أم خالد