وقد خالف في هذه الفتيا جمهور العلماء، ورحم الله أبا العباس؛ من أي باب أتى حتى جعل دليل التنجيم مدخلا في عبادات المسلمين، وقد علم أنه علم لم يكن العرب تتعاطاه، وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يأباه، وإلى هذا المعني أشار بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (نحن أمة أمية لا تحسب ولا نكتب ...) الحديث، والظن به أنه قد سلك مسلك الاحتياط، غير أنه لم يصدر عن مورده ذلك بالكفاف؛ كيف وقد قال (فأكملوا العدة ثلاثين): خطاب للعامة، ولم يخف عليه أن الصحابة- رضوان الله عليهم- لم يعنوا بذلك ولم يعملوا به وهم خير هذه الأمة وأخصهم يعلم الشريعة وأولاهم بالتأييد والتوفيق من الله المنان.
[1344] ومنه حديث أبلا هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) اللام في قوله لرؤيته يقع (بعد)، أي: بعد رؤيته، وذلك إذا لم يكن في السماء علة فلم يكن مغموما على الناس، ونظير ذلك في كلام العرب قول متمم بن نويرة:
فلما تفرقنا كأني ومالكا .... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
أي بعد طول اجتماع. ويقرب من ذلك قولهم: لثلاث خلون من شهر كذا، ولأربع بقين من كذا، وأهل الأنساب يسمونها لام التاريخ ولام الوقت.
ومن هذا النوع قول النابغة:
توهمت آيات لها، فعرفتها ..... لستة أعوام، وذا العام سابع
[1345] (ومنه) حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ... الحديث)؛ إنما قيل لمن لا يكتب ولا يقرأ أمي؛ لأنه منسوب إلى العرب فإنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرءون، وقيل إنما قيل له أمي؛ لأنه باق على الحال التي ولدته أمه، لم يتعلم قراءة ولا كتابة [159/أ].
وقد قيل فيه وجوه سوى ما ذكرنا، إلا أن الذي يناسب سياق الكلام في هذا الحديث ما ذكرناه. ثم إن إطلاق الأمي عليهم إنما صح من قبل نبيهم - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الذي بعث فيه، ثم صار الآخر تبعا للأول في التشبيه والحكم، وإن كانوا يكتبون ويحسبون.
ومعنى قوله (لا نكتب ولا نحسب) أن العمل بالحساب على ما يتعارفه المنجمون ويتعاطونه ليس مما تعبدنا به وأمرنا به؛ إذ ليس ذلك من هدينا وسمتنا في شيء.
وفيه (الشهر هكذا وهكذا) الحديث؛ قال الخطابي: يريد أن الشهر قد يكون هكذا، أي: تسعا وعشرين، وليس يريد أن كل شهر تسعة وعشرون، فإنما احتاج إلى بيان ما كان موهوما أن يخفى عليهم؛