فسقه وإن ترك بابا منه أتى بابا آخر حتى أن من هذه الزمرة من يتولى قتل النفس وقطع الطريق، وغير ذلك من المناكير والعظائم؛ قلنا أمارة ذلك تنزه أكثر المنهمكين في الطغيان عن المعاصي ورجوعهم إلى الله بالتوبة وإكبابهم على إقام الصلاة بعد التهاون بها، وإقبالهم على تلاوة كتاب الله واستماع الذكر بعد الإعراض عنهما، وتركهم ارتكاب المحظورات بعد حرصهم عليها. وأما ما يوجد من خلاف ذلك في بعضهم ويؤنس عنهم من الأباطيل والأضاليل فإنها تأثيرات من تسويلات الشياطين أعرقت في عرق تلك النفوس الشريرة وباضت في رءوسها، وقد أشار بعض العلماء فيه إلى قريب من المعنى الذي ذكرنا.
قلت: وأمثل من هذا أن نقول: قوله: (وصفدت الشياطين) وإن كان مشعرا بالعموم فيه، وفإن التخصيص فيه غير بعيد ويؤيد هذا التأويل [157/أ] ما ورد في بعض طرق هذا الحديث: (وسلسلت مردة الشياطين) ويصح أن يستثني منهم في التصفيد صاحب دعوتهم وزعيم زمرتهم لمكان الإنظار الذي سأله من الله فأجيب إليه فيقع ما يقع من المعاصي بتسويله وإغرائه.
فإن قيل وإذا قدر الأمر على نحو ما ادعيتم فأي فائدة في تصفيد من صفد إذا كان أصل الشر مستمرا على حاله؛ قلنا: الفائدة فيه فض جموحه وكسر شوكته وتسكين نائرته ولو لم يكن الأمر على ذلك لم يكن لاستظهاره بالأعوان والجنود معنى، هذا وقد ذهب بعض العلماء إلى أن التصفيد إنما كان في زمان الوحي لئلا يتمكن مردة الجن وعتاة الشياطين من الرقي في أسباب السماء لاستراق السمع فقد كان القرآن ينزل في كل ليلة قدر ما قدر أن ينزل منجما على حسب الوقائع في سائر السنة، والسماء وإن كانت محفوظة بالشهب الثاقبة من كل شيطان ما رد فيجوز أن يزاد في حراستها بتصفيد الشياطين تشديدا للأمر عليهم ومبالغة في الحراسة، وكل ذلك راجع إلى فضل ذلك الشهر المبارك وشرف أيامه ولياليه.
قلت: ويحتمل أن يكون المراد من التصفيد المذكور حسم أطماعهم من إغواء الصوام بما وطنوا أنفسهم عليه من المجاهدات ونوافل العبادات، وليس الأمر في ذلك بأكثر مما ورد به الكتاب من غير إشكال في بيانه، وذلك قوله {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون} في نظائر كثيرة من الكتاب.
[1339] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -): (من صام رمضان إيمانا واحتسابا) أي تصديقا بالله وبوعده واحتسابا للأجر بالصبر على المأمور.
ويقال احتسب فلان عمله أي عمله طبا لوجه الله وثوابه، ومنه الحسبة وهي الأجر. وحقيقة ذلك أن العامل يعد ذلك مما تقرب به إلى الله فيجازى به، قيل: احتسب ابنا له أي اعتد به عند الله.
وقوله (إيمانا) مفعول له ويجوز أن ينصب على الحال، أي صام [157/ب] مؤمنا ومصدقا ويجوز نصبه على المصدر، أي: صام صوم مؤمن ومصدق، وأحسن الوجوه أن يجعل مفعولا له.