البشرية؛ فلما رأى ابن عوف بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - استغرب ذلك من حاله، وحسب أنه ضعف عن مقاومة المصيبة بالصبر، فقال: (وأنت يا رسول - صلى الله عليه وسلم -) أي: تتفجع للمصائب تفجع غيرك؟ فقال: (إنما هي رحمة!)، أي: الحال التي تشاهد مني، أو تتعجب منها- رحمة ترق لها القلوب، وتفيض لها العيون، إذا تأمل المتأمل في الحالة التي ابتلي بها المقبوض من شدة الأمر، وضعف المنة، لا ما توهمت من قلة الصبر، والاسترسال في الجزع.
وذلك مثل قول سعد بن عبادة في حديث أسامة رضي الله عنهما- وهو يتلو هذا الحديث-: (يا رسول الله ما هذا؟! قال: رحمة جعلها الله في قلوب العباد؛ فإنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وفي حديثه ذلك: (ونفسه تتقعقع)، تقعقع الشيء: إذا اضطرب وتحرك.
يقال: إنه ليتقعقع الحياء من الكبر، ومعناه: اضطراب النفس؛ لقربها من الموت؛ فلا يثبت على حالة واحدة.
[1176] ومنه: قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما- في حديثه الذي يذكر فيه شكوى سعد بن عبادة: (فلما دخل، وجده في غاشية):
الغاشية: الداهية من شر أو مرض أو مكروه؛ ومنه قولهم: (رماه الله بغاشية)، وهي داء يأخذ في الجوف، عنى بها- ههنا-: ما كان يتغشاه من كرب الوجع الذي به، ولم يرد بها حال الموت؛ لأن سعد ابن عبادة برأ من مرضه ذلك، وعاش بعد نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفى في خلافة عمر- رضي الله عنه- وقيل: في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.
وقال الخطابي: أراد بها القوم الحضور [135/ب] عنده الذين هم غاشيته، أي: يغشونه للخدمة والزيارة ونحوها.
والأول أشبه؛ لأنه في بعض طرقه الصحاح: (فلما دخل عليه، ووجده في غاشية)، قال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله) وفي رواية: (وجده في غاشية).
ومنه: في حديثه الآخر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)؛ سمعت عائشة- رضي