ومن المنن الكبرى التى ضمنها الله- سبحانه وتعالى- كتابه العزيز قوله- سبحانه:
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) (?).
وتلك الحقيقة من آيات الله العظمى، ومننه الكبرى بحيث يتدفق الماء العذب الفرات، ويموج الملح الأجاج، ويخلق بينهما فاصلا قد لا يكون من الأرض، بل كثيرا ما يكون من الماء نفسه، وهذه الحقيقة تتبدى بوضوح عند مصبات الأنهار الكبرى، مثل نهر الأمازون فى أمريكا الجنوبية، الذى يندفع الماء العذب بين أحضان الماء المالح لمسافة تمتد لنحو ثلاثمائة كيلومتر فى قلب المحيط، يستطيع الإنسان فى أى موقع من هذه المسافة الطويلة أن يشرب ماء عذبا سائغا، دون أن يختلط به قطرة واحدة من الماء المالح، وكنا نحن قبل ثلاثة عقود من الزمان نرى ذلك فى نهر النيل أيام فيضانه الذى كان يستطيع صائدو الأسماك أن يشربوا مياه عذبة داخل البحر الأبيض المتوسط لعديد من الكيلومترات داخل البحر المالح الذى يغذوه الماء العذب، ويشكل برزخا وحجرا محجورا.
بل إن هذا الأمر- أمر الماء العذب الفرات والملح الأجاج- لا يقتصر عليهما مرج البحرين- العذب والمالح- وإنما يحدث ذلك بين البحار الملحة، ويتضح ذلك فى قول الله تعالى فى سورة الرحمن:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) (?).
وهذه الحقيقة تتضح فى لقاء البحر الأحمر ببحر العرب الذى هو جزء من المحيط الهندى، ذلك أن مياه البحر الأحمر أشد ملوحة، وأكثر حرارة من تلك التى فى بحر العرب، فلا يمتزج ماؤهما عند اللقاء، وإنما يجلف ماء البحر الأحمر- لطبيعته السالف ذكرها- إلى أسفل مياه بحر العرب، كما قرر العلماء المختصون بعلوم البحار.
والظاهرة نفسها تتكرر عند لقاء مياه البحر الأبيض المتوسط عند خليج جبل طارق بمياه المحيط الأطلنطى الكبير.
على أن هذه الحقيقة الكبرى تتمثل بشكل ظاهر للعيان عند رأس الرجاء الصالح فى جنوب إفريقيا حيث تلتقى مياه المحيط الأطلنطى بمياه المحيط الهندى فتشكل حاجزا مائيا ضخما ممتدا جنوبا إلى مرمى البصر، ولقد قام بمحاولة مشاهدة هذه الظاهرة الفذة كاتب هذه السطور، حينما زار مدينة الكاب ممثلا لفضيلة الإمام الأكبر شيخ