بتمام التوبة، وربما يكره الموت خيفة من أن يختطفه قبل تمام التوبة وقبل إصلاح الزاد، وهو معذور فى كراهة الموت، ولا يدخل هذا تحت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كره لقاء الله كره الله لقاءه» (?). فإن هذا ليس يكره الموت ولقاء الله، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، وهو كالذى يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارها للقائه، وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا شغل له سواه وإلا التحق بالمنهمك فى الدنيا.
وأما العارف: فإنه يذكر الموت دائما لأنه موعد لقائه لحبيبه، والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب، وهذا فى غالب الأمر يستبطئ مجىء الموت، ويحب مجيئه ليتخلص من دار العاصين وينتقل إلى جوار رب العالمين.
كما روى عن حذيفة: أنه لما حضرته الوفاة قال: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم؛ اللهم إن كنت تعلم أن الفقر أحب إلىّ من الغنى والسقم أحب إلىّ من الصحة، والموت أحب إلىّ من العيش فسهل علىّ الموت حتى ألقاك.
فإذن: التائب معذور فى كراهة الموت.
وهذا معذور فى حب الموت وتمنيه.
وأعلى منهما رتبة: من فوّض أمره إلى الله تعالى فصار لا يختار لنفسه موتا ولا حياة، بل يكون أحب الأشياء إليه أحبها إلى مولاه، فهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى مقام التسليم والرضا وهو الغاية والمنتهى (?).
وقد ظن الملاحدة: أن الموت انتهاء مسار رحلة الإنسان، والخاتمة الأبدية له، حيث لا رحلة بعده، ولا حياة ولا بعثا ولا نشورا وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (الأنعام: 29).
وأما الحقيقة التى غابت عنهم وغابوا عنها، والتى عرفها المسلمون من كتاب ربهم وسنة نبيهم صلّى الله عليه وسلّم لهذه النهاية:
أنها انتقال من عالم من عوالم الله- سبحانه وتعالى- إلى عالم آخر من عوالمه- عز وجل.
انتقال من دار الدنيا إلى دار البرزخ، تمهيدا للوصول إلى الدار الآخرة.
انتقال من دار الزرع إلى دار الحصاد، من دار الفناء إلى دار البقاء.
انتقال من دار التكليف والعمل الدنيوى، إلى دار الثواب والعقاب الأخروى (?).
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة: 7، 8).