السواء، وإن كان العالم أقدر على الإحاطة بجلال الإعجاز فى خلقها، ومن ثمّ كانت خشيته العميقة لخالقها مصداقا لقوله تعالى:

إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (?).

فمن هنا كان النظر الفطرى البسيط والنظر العلمى المتأمل العميق، وكلاهما مطلوب ومشروع ومفيد.

وهذا سر من أسرار بلاغة القرآن، بيد أن التعمق بالبحث العلمى السليم لا يتوافر إلا للقادرين عليه والمؤهلين له، فهو إذن فرض كفاية عليهم، كما أنهم مكلفون أيضا بتبصرة غيرهم بما انتهى إليه نظرهم، فقد أمرنا أن نتعلم ونعلم، ونهينا عن كتمان العلم.

والناس يتفاوتون فى فهمهم للقرآن بحسب درجاتهم وأحوالهم واستطاعتهم، وهم فى عصرنا أحوج من أى عصر مضى إلى أن يتعلموا من مأدبته ما استطاعوا، وأن يفيدوا من كنوزه وأسراره فى إصلاح دنياهم والفوز بنعيم أخراهم. يقول الراغب الأصفهانى فى كتابه «مقدمة التفسير»: ثم إن القرآن- وإن كان فى الحقيقة هداية للبرية- فإنهم لن يتساووا فى معرفته، وإنما يحظون به بحسب درجاتهم واختلاف أحوالهم، فالبلغاء تعرف من فصاحته، والفقهاء من أحكامه، والمتكلمون من براهينه

العقلية، وأهل الآثار من قصصه ما يجهله غير المتخصص بفنه. وقد علم أن الإنسان بقدر ما يكتسب من قوته فى العلم تتزايد معرفته بغوامض معانيه .. (?). وأهل الاختصاص فى فروع العلوم- بطبيعة الحال- ليسوا بدعا بين هؤلاء الذين ذكرهم الأصفهانى، فكل ما يساعد من حقائق العلم على تعميق فهمنا لمعانى القرآن الكريم وتعاليمه وأحكامه، هو ما يجب الأخذ به. وكم فى القرآن الكريم من آية إذا مستها يد العلم أبانت أسرارها وأظهرت إعجازها. ذلك أن القرآن الكريم له أسلوبه الحكيم فى الدلالة على آيات الله فى الكون، والهداية التى جاء أصلا من أجلها تقتضى ألا يخاطب الناس عن الكون بما ينكرون، أو بما يستعصى على أفهامهم، فيقوم ذلك حجابا بينهم وبين قبول دعوته، وحاملا على التكذيب بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.

كذلك تقتضى الهداية القرآنية ألا يوافق القرآن الناس على باطل معتقداتهم الكونية فى عصر نزول الوحى به، فيقوم ذلك حائلا دون قبول دعوته فى عصور التقدم العلمى والتقنى التى علم منزّل القرآن أنها ستكون.

وتجنب هذين العائقين عن قبول هداية القرآن هو من بدائع إعجاز أسلوبه ومن أكبر الدلائل على أنه حقا من عند الله فاطر الناس وفاطر الكون.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015