حقائق الأشياء انكشافا تاما، وتتجلى حقيقة الحقائق متمثلة فى الإيمان الخالص على هدى وبصيرة بالخالق الواحد، مصداقا لقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (?).
والعلاقة بين آيات الحق فى القرآن والكون تجمع فى ترابط محكم بين إعجاز السبق والبيان فى كتاب الإسلام الخالد، وإعجاز القدرة الإلهية فى كتاب الكون اللانهائى، ليدلى كل إعجاز بشهادة تسليم وتصديق للآخر، وليكون فى الإعجازين عبرة لكل ذى عقل رشيد، أو لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فكما أن الأدلة القاطعة برهنت على أن القرآن الكريم لا يمكن إلا أن يكون من عند الله الواحد، بدليل عدم الاختلاف بين آياته، كذلك فإن النظام الكونى المعجز بكل ما فيه من تدبير وإحكام لا يمكن إلا أن يكون من صنع الله الذى أتقن كل شىء.
وينبغى أن ندرك هنا أن المعجزة نوعان ينبغى التمييز بينهما، كى نطلب المعجزة التى يجب أن تطلب، ونتورع عن طلب المعجزة التى لا تجدى أحدا من العقلاء (?).
أما النوع الأول فهى المعجزة التى تتجه إلى العقل، وهى موجودة يلتقى بها من يريدها حيثما التفت إليها، متمثلة فى الإطراد المنتظم لظواهر الكون والحياة التى لا تتبدل ولا تتحول، قال تعالى: ... فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (?).
وأما النوع الثانى فهى المعجزة التى تكون من خوارق العادات، فهى التى تدهش العقل وتضطره بالإفحام القاهر إلى التسليم، وهى ليست بحاجة إلى قدرة أعظم من القدرة التى نشهد من بدائعها ما يتكرر أمامنا كل يوم وكل ساعة. والعالم الحق أحرى أن يعرف موضع العجب فيما يشاهده من سنن الله الكونية المألوفة فى دوران الأفلاك وخصائص المادة وسلوك الكائنات والظاهرات، فليست ألفته لها مما يصح أن يبطل العجب منها، ومن قال هذا فهو هازل مستخف بالمعجزة التى تخاطب العقل وتستثير ملكاته، وهو أيضا عاجز عن أن يجد فى هذه المعجزة يد العناية الإلهية التى تسيّر حركة الكون والحياة.
وقد غاب مثل هذا التمييز الواضح بين نوعى المعجزة عن كثير من الباحثين الذين يقفون بتفكيرهم عند حد «التفسير العلمى» للظاهرة الكونية، أو الذين يقحمون أنفسهم فيما لا يدركه العقل البشرى المحدود من خوارق العادات التى لا تخضع للنواميس الطبيعية ولا للتجارب البشرية.