الطرفان فى كلام واحد، ولكنك تقرأ القطعة من القرآن فتجد فى ألفاظها من الشفوف والملاسة والإحكام، والخلو من كلّ غريب عن الغرض، ما يتسابق به مغزاها إلى نفسك دون كدّ خاطر، أو استعارة حديث، كأنك لا تسمع كلاما ولغات بل ترى صورا وحقائق ماثلة ثم يخيّل إليك أنّك أحطت به خبرا، ووقفت على معناه محدودا، ولكن لو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذى سبق إليه فهمك أول مرة، حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة وجوها عدّة كلها صحيح، أو محتمل الصحة، كأنما هى فصّ من الماس يعطيك كلّ ضلع منه شعاعا، فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة، بهرتك بألوان من الطيف، لا تدرى ماذا تأخذ منها وما تدع ولعلّك لو وكلت النظر فيها لغيرك لرأى فيها أكثر مما رأيت، وهكذا نجد كتابا مفتوحا مع الزمان يأخذ منه كل فرد ما تيسّر له، بل ترى محيطا مترامى الأطراف لا تحدّه عقول الأفراد ولا الأجيال، ألم تر كيف وسع الفرق الإسلامية على اختلاف وسائلها فى القديم والحديث، وهو على لينه للعقول والأفهام صلب متين، لا يتناقض ولا يتبدل، يحتج به كل فريق لرأيه، ويدّعيه لنفسه، وهو فى سمّوه فوق الجميع يطلّ على معاركهم حوله، وكأنّ لسان حاله يقول قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (?)، وثانية هذه الخصائص هى (إقناع العقل وإمتاع العاطفة) (?): والحديث عن اجتماع العقل والعاطفة فى أسلوب واحد لا يقنع به إلا دارس مكين تغلغل فى خوانى علم النفس فاهتدى إلى أسرار صارت مصباحا فى يده يضيء الطريق، فقد عرفنا كلام الحكماء والعلماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء وهؤلاء إلا غلوّا فى جانب وقصورا فى جانب، فأما الحكماء فإنهم يؤدون إليك ثمار عقولهم، غذاء لعقلك، ولا تتوجّه نفوسهم إلى استهواء نفسك، واختلاف عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم، لا يأبهون لما فيها من جفاف وعرى، ونبوّ عن الطباع، أما الشعراء فيسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، ولا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غيا أو رشادا، وأن يكون حقيقة أو تمثيلا، فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون وإن كانوا لا يطربون، وكل امرئ حين يفكر إنما هو فيلسوف صغير، وكل امرئ حين يحس إنما