أيسر السبل، وأقرب الموارد، فذلك لم يكونوا منه فى شىء، فجاء القرآن ليواجههم بالأسلوب المنطقى والأسلوب العلمى معا فى سلاسل مفرغة الحلقات، محكمة الصوغ، لا وهى بها، ولا انقطاع لها، فوقفهم بذلك بين شعاب متشابكة لا يستطيعون النفاذ إلى مكنونها (?).

وقد استشهد الأستاذ لذلك بالآيات الست الأولى من سورة الحج، وبيّن ما بها من أدلة عقلية، وأفكار علمية بيانا شافيا ثم قرنها بأفصح خطبة قيلت فى العصر الجاهلى

وهى خطبة قس بن ساعدة الأيادى التى يقول فيها: «ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا»؛ ليؤكد أن الخطيب الجاهلى قد اعتمد على التأثير العاطفى وحده، أما آيات القرآن فقد جمعت العاطفة والعقل والعلم فى أسلوب سهل ميسور، وأزيد على ذلك بأنها جمعت من التصوير البيانى ما لم يعهد من قبل، ويتجلّى ذلك فى قوله عز وجل يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (?)

وبعد أن شرح الأستاذ الآيات شرحا أدبيا مصوّرا ما تتضمنه من تفوق البلاغة الرفيعة قال:

«هذا هو الأسلوب الخطابى الذى بلغ الغاية العليا بكل ما فى الخطابة من تأثير، فإذا ملأت منه يدك، وروّيت نفسك فاستمع حديث المنطق والعلم فى قوله جلّ شأنه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ (?) إلى آخر الآية، فقد ساق الله دليلين لا يقبلان الشك، فى الوجود بعد الهمود، والحياة بعد الممات، وفى الحالتين استحال التراب بما فيه من الحياة الكامنة، إلى خلق حى يزداد على الأيام نموا وسموا، فتأمل كيف كشف الله حجاب العلم فى قوله تعالى: مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ (?) فهو سبحانه وتعالى يسقط هذه المضغ من الأرحام، ليشرح للإنسان كيف كانت أوّليته، ففي هذه الآيات بسط لأدوار التكوين الإنسانى بما لا يمكن للعرب أن يأتوا بمثله، لأنّه أتاهم بعلم ما لا يعلمون، ومن الدقة البديعة فى الأسلوب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015