يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها (?) حيث قال:
«فإن قلت: لم قيل مرضعة دون مرضع، قلت: المرضعة التى هى فى حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبىّ، والمرضع التى من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع فى حال وصفها به، فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة» (?).
ومن دقائق ما التفت إليه الزمخشرى ما ذكره عن تفسير قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا (?). حيث قال:
«فإن قلت: أى فرق بين (وظنوا أن حصونهم تمنعهم) وبين النظم الذى جاء عليه؟ قلت:
فى تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها، ومنعها إياهم، وفى تصيير ضميرهم اسما وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم فى أنفسهم أنهم فى عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم، أو يطمع فى منازلتهم، وليس ذلك فى قوله: «وظنوا أن حصونهم تمنعهم». (?)
هذه لفتات أدبية رائعة تصور إحساس الزمخشرى بالإعجاز القرآنى فى كل منحى من مناحيه، كلمة أو جملة أو تقديما أو تأخيرا، وقد ظهرت مؤلفات خاصة بتفسير الكشاف وضحت هذه المعانى بما لا مزيد عنه، ولو امتد هذا الإحساس الأدبى لدى الذين نقلوا عنه من المفسرين، لواصلوا السير على نمطه، ولكن كلّ ميسر لما خلق له.
وحسبه أنه أعطى فأجزل العطاء.
تراجع: كان انتهاء القرن الخامس الهجرى مؤذنا بتراجع ملموس فى النشاط الابتكارى بالدراسات العلمية والإبداع الأدبى معا، وقد شمل ذلك دراسات الإعجاز القرآنى حيث لم تعد مدّا متواصلا يحفل بالجديد، بل وقفت إلى ما انتهى إليه السابقون، وزادت عليه أن غمرتها الخصائص المنطقية، وكان الفخر الرازى أول من انتقل بها من مجالها البيانى إلى تقسيمات المناطقة، حين ألف كتابه (نهاية الإعجاز فى دراية الإيجاز)، فاستعان بالمنطق فى تشعيب المسائل وتفريعها، والإحاطة بالأصول والفروع غير ملتفت إلى جمال النص وروعة الأسلوب، بل أصبحت القواعد الجافة، مجال تأملاته وموضع اهتمامه، وكأنه يكتب عن فلسفة ومنطق ونحو وصرف لا عن بيان