فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (?) حيث قال:
«الأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا، وهذا لا يكون فيبقى أن يكون مجازا، ووجه المجاز، أنه صبّ عليهم النعمة صبّا، فجعلوها ذريعة للمعاصى وإتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبّب إيلاء النعمة فيه. وإنما خوّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر. وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول. وهو كلمة العذاب فدمّرهم» (?).
ثم يكر الزمخشرى على رأى ذائع فينقضه بقوله: «هلّا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا» قلت: إن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف بحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن الأمر به حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض، يقال: أمرته فقام وأمرته فقرأ، فلا يفهم منه إلا أن المراد به قيام وقراءة، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب» (?)، ثم يفيض المفسر الكبير فيما يؤيد رأيه؛ ذاكرا من الأمثلة ما يدل على مهارة واقتدار، فإن كان طابع المنطق يطغى على عبارته، ولو تجاوز هذا الطابع الجدلى الصارم لكان كلامه نمطا من التفسير البيانى يقارب نمط الشريف وعبد القاهر، فيخرج من هذه الحدود إلى فضاء فسيح، وإذا كان الزمخشرى لم ينس نصيب النحو فيما تصدّى له من تفسير آيات الكتاب المبين فإن نصيب البيان قد تجلى بوضوح سافر فى أكثر ما كتب؛ مما يكشف لبعض الدقائق الخافية فى أسرار التأويل، وأمثّل لذلك بما ذكره فى تفسير قول الله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (?).
قال: اقشعرّ الجلد إذا تقبّض تقبّضا شديدا، وتركيبه من حروف القشع، وهو الأديم اليابس مضموما إليه حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيّا ودالا على معنى زائد يقال:
اقشعر جلده من الخوف، وقفّ شعره وهو مثل فى شدة التخويف، فيجوز أن يريد به الله تعالى التمثيل تصويرا لإفراط خشيتهم.
وأن يريد به التحقيق» (?)، ولم أجد من خص كلمة قشع بهذا التحليل قبل الزمخشرى، وهو مما يدل على شدة إحساسه بمعانى الحروف قبل إحساسه بمعانى الكلمات.
ونظير ذلك ما ذكره من الفرق بين مرضع ومرضعة عند تفسيره لقول الله عز وجل: