الله مقدما ذلك بتمهيد يتحدث عن قضية الذوق الأدبى، ومدى الاستناد إلى ارتياح الناس له دون تحديد، فقال: «وزعم آخرون أن إعجازه من جهة البلاغة، ووجدت عامة أهل هذه المقالة، قد جروا فى تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن دون التحقيق له، وإحاطة العلم به، ولذلك صاروا إذا ما سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التى اختص بها القرآن، الفائقة فى وصفها سائر البلاغات، وعن المعنى الذى يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة، قالوا إننا لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم مباينة القرآن غيره من الكلام، وإنما يعرفه العالمون عن سماعه ضربا من المعرفة لا يمكن تحديده ...
وقد توجد لبعض الكلام عذوبة فى السمع وهشاشة فى النفس، لا توجد مثلها لغيره، والكلامان معا فصيحان ثم لا يوقف لشىء من ذلك على علة. قلت: وهذا لا يقنع فى مثل هذا العلم، ولا يشفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أحيل به على اتهام». (?)
فأنت تراه لا يجعل الارتياح النفسى بعض أسباب الاستحسان الأدبى إلا إذا قرن بتعليل ودليل، وهذا ما نهض للإجابة عنه حين تحدث عن أسلوب القرآن، فذكر «أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها فى نسب البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز المطلق المرسل، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم، الذى لا يوجد فى القرآن شىء منه البتة، فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثانى أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حفنة، وأخذت من كل نوع من أنواعها بشعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتى الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد فى نعوتهما كالمتضادين، لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة فى الكلام تعالجان نوعا من الوعورة. فكان اجتماع الأمرين فى نفسه، مع نبو كل منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسرها الله بلطيف قدرته من أمره، لتكون آية بينة لنبيه، ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر ربه. (?)
وهذا كلام جيد. والذين تعرضوا له بالتحليل فهموا منه أن الجزالة والعذوبة يجتمعان فى القرآن معا: كلّ فى موضعه على انفراد، بحيث تكون آية عذبة، وآية جزلة، وفق ما تقتضى المعانى: ولكنى أفهم منه ما يدل على امتزاج الرقة بالجزالة فى تعبير واحد. وهو ما فصّلت الحديث عنه فى