الماضية والآتية، والحق أن تفسير الصرفة بمعنى عدم اتجاه العرب إلى المعارضة فقط، مما لا يعقل أن يقول به رجل كبير العقل كالنظام مهما أرجف أعداؤه بما اختلفوا من مثالبه، وقد جعله الجاحظ عبقرى القرن الثالث، فكيف يكون بهذه المنزلة الرفيعة ثم يذهب هذا المذهب المخطئ، كما أن مما يجعل المسألة ذات خطر فى حديث الإعجاز أن أفاضل من الأعلام مثل الجاحظ وابن سنان والمرتضى وابن حزم والعلوى قد قالوا به؛ أفيكون هؤلاء من الضحالة وضيق النظر حتى يفهموا من الصرفة هذا الفهم الذى ينكره الغلام الناشئ بله العالم المفكر؟ إن الأمر لا يستقيم إلا إذا فهمت الصرفة فهما يتفق وجلال هؤلاء الكبار الذين هتفوا بما قال النظام. وهم أنفسهم الذين تحدثوا عن بلاغة القرآن وإعجاز فصاحته تركيبا ونظما وتصويرا بما يجعل ذلك من أسباب الإعجاز، إن الذى فهمته من معنى الصرفة، ولا أدرى إذا كنت قرأته من قبل لبعض الفضلاء ونسيت اسمه أو أنه شىء قذفه الله فى نفسى! هذا المعنى هو أن العرب حين دهشوا من روعة القرآن، وبهرهم تأثيره بما فوق القدرة، انصرفوا تلقائيا عن معارضته، لأنهم علموا أنهم مهما حاولوا هذه المعارضة وجمعوا لها أساطين القول من بلغائهم المعدودين فلن يأتوا بسورة من مثله، أو بعشر آيات من مثله، فكانت (الصرفة) عن المعارضة التى توقعوا استحالتها بادئ ذى بدء هى وجه الإعجاز الذى عناه النظام وهو وجه معقول نلمس نظائره فى الحياة حين يبنى مهندس عبقرى صرحا رائعا. فيكون آية الآيات فى بابه، ويراه زملاؤه فيقرون بالعجز عن بناء مثله، ويصرفون أنفسهم عن محاولة هذا البناء! هذا هو الفهم الجدير بالنظام ومن تبعه من البلغاء، وهم من هم!
الجاحظ: للجاحظ سطوة فى التعبير، وتدفق فى سوق الحجج والبراهين، وقد عاش فى مشتجر الجدل، وخاض عباب الحوار فلا بد أن يكون لإعجاز القرآن نصيب من حديثه الدافق، وقد ذكروا من مؤلفاته المفقودة كتابى (نظم القرآن) و (آى القرآن) وحديث النظم قد اشتهر كثيرا من بعده حتى مخض زبدته الإمام عبد القاهر الجرجانى. فلا أستبعد أن يكون هذا الكتاب المفقود نواة هذا الحديث، وقد قال الجاحظ عنه مخاطبا الفتح بن خاقان حين طلب منه أن يكتب مؤلفا عن القرآن: «فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسى، وبلغت فيه أقصى ما يمكن مثلى فى الاحتجاج للقرآن، والرد على كل طعّان، فلم