(و) أن يأتى فى الآية روايتان صحيحتان:
كل منهما نص فى سبب النزول، ولا مرجح لإحداهما على الأخرى، ولا يمكن الجمع بينهما على اعتبار قرب الزمان، لأن زمانهما متباعد، وعندئذ يحمل العلماء مثل هذه الصورة على تكرر النزول.
وقد مثل الزركشى لذلك- فى البرهان- بما ورد فى سبب النزول لقول الله تعالى:
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ هود/ 114، من أنها نزلت- كما فى الصحيحين (?) فى رجل أصاب من امرأة قبلة، فسأل النبى صلّى الله عليه وسلم عن كفارتها، فنزلت الآية.
قال الزركشى معلقا: «والرجل قد ذكر الترمذى أو غيره (?) أنه أبو اليسر، وسورة هود مكية باتفاق، ولهذا أشكل على بعضهم هذا الحديث مع ما ذكرنا، ولا إشكال لأنها نزلت مرة بعد مرة» (?).
والحق أن هذا الإشكال لا يحتم القول بتكرر النزول كما قال الزركشى، لأن كون السورة مكية لا يمنع أن تكون بعض آياتها مدنية، لأن الاعتبار فى تصنيف السور إلى مكى ومدنى بالأعم الأغلب، والقرآن نزل منجما فى مكة والمدينة، والراجح أن هذه الآية مدنية، وهذا ما قرره السيوطى رحمه الله ونص عليه فى بيان أن بعض السور التى نزلت بمكة فيها آيات نزلت بالمدينة، ذكر منها سورة هود، فقال: «هود: استثنى منها ثلاث آيات: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ قلت:
دليل الثالثة ما صح من عدة طرق أنها نزلت فى المدينة فى حق أبى اليسر» (?).
كما ساق الزركشى مثالا آخر لتكرر النزول فقال: «وكذلك ما ورد فى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أنها جواب للمشركين بمكة، وأنها جواب لأهل الكتاب بالمدينة» (?). وعلل لتكرار النزول بقوله: «وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه، وتذكيرا به عند حدوث سببه خوف نسيانه، وهذا كما قيل فى الفاتحة نزلت مرتين: مرة بمكة وأخرى بالمدينة» (?).
وعلى كل ففي القول بتكرار النزول أقوال للعلماء، ولم يتفقوا جميعا على القول به، بل منهم من أنكر وقوعه (?).
هذه هى الأوجه التى تتأتى فى تعدد الروايات فى أسباب النزول، وهذه هى أمثلتها مقرونة بما يتأتى فيها من الجمع بينها، أو ترجيح بعضها على بعض، مع بيان دواعى هذا الترجيح.